Saturday, August 14, 2010

هل تعرف؟

هل تعرف؟!

"قصة قصيرة"


"استرخِ تماماً.. استرح"..

تمتم الطبيب النفسي بهذه الكلمات بطريقة روتينية تنم عن طول اعتياده ترديدها لكل مريض يزور عيادته.. واستجاب x فوراً فألقي جسده المتعب على المقعد الوثير المقابل لمقعد الطبيب، لكنه، وقبل أن يمس جسده المقعد، انتفض واقفاً مرة أخرى ووجهه تبدو عليه إمارات الهلع والذعر، فما كان من الطبيب إلا أن ابتسم ابتسامة واسعة تخفي وراءها سخرية كامنة، وقال في عطف ظاهر:

  • - ماذا هنالك؟

مرت لحظات و x يرتعش في خوف واضح قبل أن يتمالك أعصابه ويقول:

  • - ألم تر هذا العقرب سيدي؟.. لقد مر بسرعة فوق المقعد و.. حمداُ لله.. لقد نجوت بأعجوبة..

ضحك الطبيب ضحكة قصيرة ثم قال:

  • - لم يكن ثمة عقرب أو حتى ذبابة.. إن لديك حالة من "الأوهام".. عموماً.. إنها لا تستعصي على العلاج.. كل ما أطلبه منك أن تنفذ ما سأقوله لك بالحرف الواحد..

وقف x مدهوشا للحظات.. من المستحيل أن يكون ما رآه وهماً.. ولكن هيهات.. أليست تلك الأوهام اللعينة هي السبب في مجيئه إلى هنا؟.. أليست تلك الأوهام العصبية هي منغص حياته منذ مولده؟.. فليكن العقرب وهماً إذن!!..

"هيا استرخِ تماماً"..

حاول جاهداً أن ينفض عن ذاكرته مشهد العقرب حتى يتسنى له شيء من الاسترخاء، وأخذ يتلفت حوله بعينيه في شك وهو يحشر بدنه حشراً داخل المقعد الوثير، ثم ركز عينيه على الطبيب والأخير يقول بلهجة آمرة:

  • - أريدك أن تهدأ تماماً.. تركز أفكارك.. اغمض عينيك.. حاول أن تتذكر كيف تطورت معك تلك "الأوهام العصبية"؟..

اغمض عينيك!.. ركز أفكارك!.. تذكر!.. نعم أتذكر فقد عمدت قبل حضوري إلى هنا إلى تذكر كل شيء ومراجعته جيداً حتى لا أجلس أمام الطبيب كالطالب الفاشل..

  • - منذ مولدي وأنا أعاني من تلك الأوهام.. لقد..

قاطعه الطبيب ضاحكاً وهو يقول:

  • - وكيف عرفت ذلك؟.. أنت تقول "عند مولدك"..

بدا على x الضجر من سذاجة السؤال وأجاب بلهجة تنم عن نفاد صبره:

  • - عرفت ذلك من والديّ بالطبع.. يقولان أنى كنت أتلفت حولي كثيراً بغير سبب وأحيانا أفزع وأخاف وأخرى أضحك وأهتز من شدة الفرح دون داع كما..

قاطعه الطبيب مرة أخرى وهو يقول بحدة:

  • - وهل هذه هي المعرفة يا أبله؟.. ربما كان والداك كاذبين.. ربما لم يحدث شيء من هذا إطلاقا, وربما كانا توهما ذلك عند ظهور أعراض المرض عليك بعد ذلك كمحاولة للوصول إلى جذور المرض وأسبابه.. وربما.. وربما..

بدا على x الضيق الشديد.. كان دائماً يشعر بالضيق عند تعرضه للإهانة.. لكنه حاول أن يخفي ضيقه وعاد ليقول في هدوء:

  • - أنت على حق سيدي.. لكني للأسف لا أملك مصدراً آخر للمعرفة.. فالأوهام اللعينة عطلت عمل الحواس والعقل وأفقدتني الثقة في كل ما أعرفه..

هز الطبيب رأسه كعلامة على تفهمه للموقف ثم قال:

  • - نعم.. نعم.. إذن باستطاعتك أن تسرد لي تطورات المرض كما تحس أنت.. كما ترى أنت.. كما تتصور أنت.. أنت.. لا من حولك..

بدا على x خيبة الأمل وهو يقول:

  • - وهل ذلك سيفيد؟.. إنني سأشرح لك الحقيقة المزيفة.. أما الواقع فلن أحمل لك منه سوى صورة مشوهة مائعة فيها الكثير والكثير من الذاتية.. وأنت يا سيدي بالضرورة تبحث عن الحقيقة الموضوعية للمرض.. لا حقيقته الذاتية..

أجاب الطبيب في سأم:

  • - بل أنا في حاجة إلى كليهما.. عموماً.. تكلم بحرية.. لن أقاطعك.. قل كل ما يدور في ذهنك.. سواء كان نابعاً منك أو ممن حولك.. تكلم..

كان يردد الكلمة الأخيرة وهو يعد جهاز التسجيل الموضوع على مكتبه فانتظرت قليلاً حتى فرغ من ذلك وبدأت أتكلم..

أنا خائف.. الكل من حولي قد لاحظوا مرضي.. إنهم يقولون إنني أتوهم أشياء وأشخاصاً وأحداثاً لا وجود لها.. والدي قال لي ذات مرة "إنك لن تعرف الحقيقة أبدا لأنك ولدت محملاً بالأوهام، تماماً مثل من ولد أعمى فإنه أبدا لن يعرف الألوان".. والدتي كانت دائماً تنظر إلىّ بشفقة.. لقد فقدت الثقة بنفسي تماماً.. أنا حتى أكاد لا أكون متأكداً ما إذا كانت والدتي قد ماتت في ذلك اليوم المشئوم.. يوم أن سقطت بين ذراعي.. أم أنها لا تزال حية.. ربما كانت حية.. وأنا لا أراها.. ما الذي يمنع من حدوث ذلك؟..ألست أنا "أبا الأوهام" كما أطلقوا عليّ؟!.. أحيانا أتساءل: كيف تبدو الحياة لأولئك الأصحاء؟.. هؤلاء الذين لا يعانون من الأوهام.. هل تبدو لهم أكثر وردية وإشراقاً؟. هل تبدو لهم أكثر معقولية؟.. هل أنا مجنون؟.. الغريب أن الأوهام لديّ انتشرت في كل حواسي فلم تسلم منها حاسة.. ذات مرة ظننت أن الوهم ناشئ عن الإبصار وقررت أن ألمس الأشياء لأتأكد من وجودها.. اللمس.. تلك الحاسة التي تشعرك بالوجود المادي الواقعي.. رأيت فأراً ضخماً يجري.. قررت أن ألمسه.. برغم كل التقزز الذي شعرت به، لكني أمسكت به بالفعل.. وإذا بمن حولي يقولون أنه كان وهماً.. كيف؟.. لقد رأته عيناي وأمسكته يداي.. هل يكذبون؟.. ولماذا يكذبون؟..

تساقطت الدموع من عينيه من فرط الانفعال، فبدا التأثر على وجه الطبيب، ولكنه سرعان ما قال بلهجة الخبير:

  • - هناك حد فاصل بين الوهم والحقيقة.. بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي.. بين ما تشعر به وما يوجد في الواقع بالفعل.. فعلى سبيل المثال إذا توهمت مثلاً وجود ذئب فإن هذا يعد وهماً ذاتياً لكنه إن تعدى مرحلة الوجود بالقوة إلى مرحلة الوجود بالفعل كأن قام مثلاً بعض يدك، فالأمر هنا سيكون حقيقة موضوعية.. على الأقل الدم الذي سيسيل من يدك هو حقيقة موضوعية حتى وإن توهمت أسبابا مختلقة له..

هز x رأسه في يأس وهو يقول:

  • - سيدي.. لقد رأيت في ذات مرة سكيناً وقررت أن أجرح نفسي لأتأكد من وجوده، فسال الدم بالفعل من يدي وشعرت بالألم، لكني لم أر انفعالاً في وجوه من حولي.. لقد كان وهماً هو الآخر.. وللآن ما زال أثر الجرح بادياً لي وحدي دون غيري من الناس..

ثم أجهش في البكاء وهو يقول:

  • - أنا لست أدري إن كان وجودي نفسه حقيقة أم وهماً؟.. وجودي معك الآن.. هل هو حقيقة؟.. فما بالك بحقائق الوجود الكبرى كالله والجنة والنار؟.. لقد قرأت ذات مرة عن أوهام بيكون.. لكنني في الحقيقة لم أستطع الاعتماد على منهجه.. حتى ديكارت.. هيوم.. هل الحقيقة هي ما أتصوره؟!.. لست أدري..كما أنني..

توقف فجأة عن الكلام.. إنه يري ذئباً.. يا له من وحش كاسر!!.. كيف تسنى له الدخول إلى هنا؟.. هيهات.. إنه وهم جديد.. لكني خائف!!..

"ماذا هنالك؟" تمتم الطبيب بهذه الكلمة في قلق وهو ينظر إلى عيني x الزائغتين، لكن x كان مشغولاً بمشهد آخر.. الذئب ينوي الانقضاض على الطبيب.. هل أنبهه؟.. لكنه سيسخر مني.. وهو على حق..

دوت صرخة هائلة من فم الطبيب إثر انقضاض الذئب عليه، واندفع الدم كالفيضان من عنقه.. وما هي سوى لحظات حتى اندفعت الممرضة إلى الحجرة لترى ماذا يجري؟؟... لقد هوت على الأرض فاقدة الوعي من بشاعة المنظر..

أسمع أصوات الناس في الشارع يتحدثون عن هروب ذئب من حديقة الحيوان.. أما من منقذ؟.. ولكن هيهات.. اهدأ.. لا تحاول الهروب!!.. إنه مجرد وهم.. ربما لن تفيق منه أبدا.. لكنه وهم..

الذئب يقترب مني ودم الطبيب يسيل من فمه.. لن أحرك ساكناً.. يقترب!!.. يا للفزع!! لقد انقض عليّ!! ألم رهيب.. رهيب.. رهيب.. هل سأموت؟.. هل سأموت حقاً أم أنه وهم؟.. أشعر بأنفاسي تختنق.. تتحشرج.. أفقد الوعي بما حولي.. أفقد القدرة على تحريك أعضائي.. أهوي إلى الأرض.. تخفت مشاعري.. رويداً.. رويداً.. رويداً.. جهاز التسجيل يردد "إنك لن تعرف الحقيقة أبدا لأنك ولدت محملاً بالأوهام، تماماً مثل من ولد أعمي فإنه أبداً لن يعرف الألوان".. وداعاً!!..


شيطان المساء

شيطان المساء

"قصة قصيرة”



دقت أجراس الدير، يخترق رنينها جدار السكون, معلنة حلول موعد صلاة المساء، فأسرعت خطاي مهرولة حتى أتخذ موقعي بين الراهبات. وبدأنا الإنشاد على أنغام القيثارة الحزينة.. أناشيد.. طقوس.. ابتهالات.. أشعر بمشاعر شتى.. أشعر بالخوف من مقدم الرهبان.. هل سيحدجني بذات النظرة الصارمة التي تؤلمني بل تصيبني بالفزع؟.. يا لها من حياة!.. ماذا سأفعل بعد الصلاة؟.. هل سأخلد إلى النوم أخيراً بعد هذا اليوم الشاق؟.. يا ترى كيف تكون الراحة؟.. يا ترى كيف يكون التعب؟..

وتجمعت داخلي مشاعر الراحة والرجاء والتعب والخوف والألم كلها في آن.. وأخذ فمي يردد تلك الأناشيد الكهنوتية المحفوظة بطريقة ميكانيكية آلية، لولاها لما احتفظت بموقعي بين الراهبات.. أنا لم أزل صغيرة.. لكني لا أعرف كم أبلغ من العمر.. ربما سبعة عشر عاماً وربما أكثر أو حتى أقل.. لكنني صغيرة.. شيء ما بداخلي يؤكد لي ذلك.. أصر والدي على إلحاقي بهذا الدير.. لم أعترض.. كل شيء سواء..

ها قد انتهينا من الصلاة.. أسرعت الخطى نحو باب القاعة، يحدوني الأمل في الراحة.. حجرتي الحبيبة.. خلعت الثوب الأسود ونظرت إلى المرآة.. هل ذلك الكائن الممتعض هو "أنا"؟.. شحوب.. اصفرار.. ضعف.. ذبول.. لا يهم.. المهم أنني سأرتاح.. تماما.. نفضت الغبار من على وجهي.. لم أعد كما كنت في الماضي.. لكني لا أذكر كيف كنت..

وفجأة.. سمعت صوتاً بالشرفة.. لم أخف.. فتحت باب الشرفة بهدوء فطالعني بوجهه الباسم يقول:

  • - عمت مساءاً..

لم أنبس ببنت شفة، ليس خوفاً وإنما ذهولاً، وأخذت أحدق في وجهه في صمت فقال ضاحكا:

  • - أقول عمت مساءاً.. ألا تسمعين؟

رددت بلا وعي كالمنوم تنويما مغناطيسيا:

  • - بلي، أسمعك..

قال ساخراً:

  • - فلتجيبي إذن أيتها الحمقاء!..

لقد أهانني.. علّمنا يسوع أن نسامح ونغفر.. أشعر أني أعرف ذلك الرجل.. منذ قرون سحيقة مضت.. قسمات وجهه.. شعره.. فمه.. قلت له متسائلة:

  • - هل تعرفني؟..

دخل الحجرة وأغلق باب الشرفة وراءه وهو يقول:

  • - أكثر مما تتصورين..
  • - كيف؟..
  • - لقد كنت أراقبك دوماً وها قد سنحت الفرصة أخيرا..

عبارة ذو وقع شاذ.. لا يهم!.. لكني استشعرت في عينيه شيئاً من الرغبة، وتذكرت فجأة أنني عارية لا أرتدي سوى ثوب شفاف، فأسرعت إلى الثوب الأسود الملقى على الأرض كما علمني الدين والمجتمع، وقبل أن تمتد إليه يدي المتأهبة، أمسك بيدي في شيء من العنف أو هكذا أحسّت يدي التي لم يلمسها رجل من قبل, وقال بحدة:

  • - لا تسيئي الفهم.. سيدتي.. أنا أعني أن الفرصة قد سنحت للحديث معك..

كيف يجرؤ على لمس يدي؟!.. حاولت جاهدة التملص من قبضته لكني فشلت فقلت له بشيء من الحدة حاولت أن تبدو واضحة في نبرات صوتي:

  • - فلتترك يدي.. دعني أرتدي ثوبي..

قال في حيرة:

  • - سيدتي.. أنا لم أحكم قبضتي على يدك بهذه القوة.. كنت تستطيعين التخلص من قبضتي بسهولة.. إن أردتِ..

نظرت إليه صامتة والتقطت يدي الثوب فارتديته على عجل.. كان ينظر إليّ بغير اهتمام.. بغير رغبة.. قلت له في صرامة:

  • - ماذا تريد مني أيها الزائر الغريب؟..

قال ببراءة:

  • - أنت التي في حاجة إلىّ.. سيدتي..

وقبل أن أتساءل أو حتى أندهش عاجلني بالحديث قائلاً:

  • - ماذا تفعلين في هذا الدير المعتم؟..

تعجبت من سذاجة السؤال, لكني سرعان ما أدركت السخرية الكامنة في حروفه، فتجاهلت هذا الإدراك وقلت:

  • - أنا راهبة.. أؤدي الصلوات.. أحيا في طهارة وعفاف بعيداً عن عالمكم الملئ بالشرور..

تساءل:

  • - ولمن تصلين؟.. ولم تفنين حياتك في هذا الهراء؟..

فاجأني سؤاله الوقح فقلت له بحدة:

  • - سيدي.. لا مجال لإلقاء الدعابات في هذا الحديث..
  • - لكني أتحدث بجدية.. أنا لست أفهم المبرر وراء ما تفعلين..
  • - من أجل الرب.. مخلصنا يسوع.. ألا تؤمن بالرب؟..

هز كتفيه بلا مبالاة وقال:

  • - لست أدري.. وهل إيماني بالرب سيغير شيئاً من الواقع؟..

حقاً.. لست أدري.. لقد فطرت على الإيمان بالرب.. الآب.. الابن.. الروح القدس.. لا أستطيع أن أتصور نفسي ملحدة.. إنها الفطرة!.. أو قل إنها الصدفة!.. الظروف.. إيمان مكتسب.. لست أدري.. كل شيء سواء.. لكني لا أستطيع أن أظهر هذه الحيرة أمامه فقلت له بهدوء وأنا أخفي ما عساه يبدي ما بداخلي:

  • - بالطبع!.. إيمانك بالرب سيشعرك بالغاية.. الاطمئنان.. السكينة..

هز كتفيه مرة أخرى قائلاً:

  • - وهل تضمنين لي حدوث ذلك؟..
  • - بالطبع!..
  • - إذن.. فلأؤمن بوجود الرب!!..

يا لها من عبارة.. اندهشت لهذه النتيجة السريعة، فلم أتصور أن أنتصر بهذه السرعة، ولم أتصور أن اتخاذ قرار مصيري كذلك يمكن أن يتم بهذه البساطة، فبادرت بإلقاء السؤال:

  • - وهل ذلك عن اقتناع كامل؟..

قال بهدوء:

  • - ربما.. لست أدري.. وماذا يعني الاقتناع؟.. ألا يكفي أن أقول لذاتي في كل لحظة أنني مؤمن بالرب؟.. أنا لن أحاسَب على ردود ذاتي.. يكفيني الإرادة أو الرغبة في الاقتناع.. أو فلنقل يكفي أن أؤدي ما يدل على إيماني بالرب.. أؤدي الصلوات.. أذهب إلى الكنيسة أيام الآحاد.. إنه شيء أكثر قابلية للاستدلال من ذلك الشعور النفسي المبهم..

وقبل أن أفكر في مغزى كلامه بادرني بالسؤال:

  • - وأنت لماذا تؤمنين بالرب؟..
  • - لا بد للكون من خالق.. وإلا فكيف أتت السماء و...؟

قاطعني في حدة قائلاً:

  • - كفاك هذا الحديث المحفوظ المتكرر.. ألا تستطيعين التفكير بعقلك أنت؟..

قلت في حدة قصدت أن تكون مماثلة لحدته:

  • - بالطبع أفكر.. أنا أؤمن بالرب أملا في الخلاص..
  • - إذن فأنت تعيشين حياة الرهبنة أملا في جزاء مادي.. الخلاص.. السعادة.. وخوفا من العذاب.. الإنسان لا يستطيع أن يفكر بوضوح في غير الماديات.. أما عدا ذلك فكلها أفكار مبهمة..

ثم سأل فجأة:

  • - ولماذا خلقنا الرب؟..
  • - لكي نعبده، ونؤمن به..
  • - إذن فنحن أشبه بالدمى.. يخلقنا ثم يسّيرنا ثم يميتنا ويحاسبنا على أفعالنا..

صحت في وجهه قائلة:

  • - تباً لك!.. إننا مخيرون بين مدينة الله ومدينة الشيطان...

ثم بجدية بالغة:

  • - ماذا تريد من هذه المناقشة؟..

قال ضاحكا:

  • - اعتبري أني أحد أفراد قبيلة وثنية تسكن في أدغال إفريقيا وأنك على رأس بعثة تبشيرية لهدايتي إلى الطريق القويم..

قلت له بصرامة:

  • - سيدي!!.. أنت لن تغير معتقداتي في لحظة.. أنت شخص ملحد جاهل أحمق.. أنا أؤمن بالرب.. وأؤمن بالخلاص.. وقد قال يسوع: إن مملكتي ليست من هذا العالم!..

قال مداعباً:

  • - سيدتي.. لو أن البعثات التبشيرية كانت تتعامل مع الوثنيين والملاحدة بذات أسلوبك لبقيت أوربا على وثنيتها..

ماذا يريد مني هذا الشيطان؟.. أنا خائفة!.. ارتعدت أوصالي فجأة.. رمقته بنظرة صارمة أو هكذا كنت أريدها.. قال لي بسخريته القاتلة:

  • - حسناً!.. دعينا من هذا الحديث الكئيب!!.. فلنتحدث في موضوع آخر..

قلت له بذات الصرامة:

  • - لا مجال للحديث بيننا سيدي!.. فلتخرج مثلما أتيت!..

قال بلا مبالاة:

  • - ألم تتحرك عاطفتك من قبل؟.. أو بعبارة أكثر دقة ألم تتحرك غريزتك الجنسية من قبل؟..

وقع عليّ السؤال كسيل مفاجئ.. صرخت قائلة:

  • - أنا راهبة.. سيدي!..
  • - وما شأن هذه بتلك؟.. الحب والرغبة غرائز طبيعية يحسها كل إنسان سواء كان فاسقاً أو راهباً.. والغريزة الجنسية هي الدافع وراء كثير من أفعالنا..

قلت له وأنا أسترجع خلاصة ما تعلمته:

  • - مهمتي سيدي أن أقتل الرغبة والغريزة!.. مهمتي أن أتطهر!.. أنصرف عن الخطيئة!..
  • - هذا الحديث قد ينخدع به المجتمع الأحمق، أما أنا فلا.. الطهارة والإنسان لا يجتمعان..


أنا مازلت صغيرة.. صغيرة.. المجتمع والعقيدة ورائي.. كلا.. أنا أريد.. أرغب.. لست أدري.. ماذا أفعل؟.. وبلا تفكير.. انمحت كل الحواجز في لحظة فاستيقظت بداخلي المرأة والرغبة.. أمسكت وجهه بعنف ثم انهلت عليه تقبيلاً.. تقبيلاً.. تقبيلاً.. جبهته.. عينيه.. فمه.. وجنتيه.. عنقه.. لأول مرة أحس بوجه رجل يلامس وجهي.. يا لها من لذة!.. ياله من شعور!.. يا ترى كيف تكون اللذة الجنسية؟.. أنا إنسانة.. راهبة.. كل شئ سواء..

لم يبد في وجهه شيء من التأثر.. كصنم أو حجر صامت.. ماذا فعلت؟.. أنا فاسقة.. خنت يسوع.. كلا.. لقد خنت المجتمع.. نظرت في المرآة.. يبدو عليّ الإجهاد.. التعب.. رغبات مكتومة مكبوتة كمارد يريد الانطلاق من عقاله.. تباً للمجتمع!.. سحقا للعقيدة!..

أخذت أضحك.. أضحك.. لكني لا أتحمل الخطيئة.. الهوان.. تأنيب الضمير.. أسرعت إلى سكين ملقى بجانب الفراش.. انهلت عليه طعناً.. طعناً...طعناً.. كمن يريد وأد كل شطحاته ورغباته..

نظرت إلى المرآة.. شعرت بآلام حادة في جسدي.. لم أجده في المرآة.. ولا في الحجرة.. ولا في أي مكان على أرض الواقع.. لم يكن موجودا سوى بداخلي.. لم أجد سوي الدم يسيل من صدري.. تباً للحياة!!.. تباً للموت!!..




العبد

العبد

"قصة قصيرة"


كان ممسكاً بخرطوم مياه في يده، منهمكاً في ري حديقة غناء مترامية الأطراف.. حديقة حفظ كل ركن فيها عن ظهر قلب.. انحفرت في ذاكرته أشجارها الباسقة.. وأشجارها الضئيلة الذابلة.. علقت في قلبه أزهارها زهرة زهرة.. حشائشها.. حشراتها.. وذلك من كثرة ما رآها في حياته القصيرة.. الخالية من كل معنى.. المجردة من كل مغزى..

كانت حديقة شاسعة.. أو هكذا تخيلها منذ طفولته, ونما معه هذا التخيل يوما بيوم دون أن يحاول التأكد من صحته.. ربما لأن هذا لم يكن شيئا مهما يستحق بذل الجهد..

كانت حديقة حزينة.. كئيبة.. طبع عليها حزنه وكآبته، وانطبع عليه حزنها وكآبتها.. فصار جزءاً منها وصارت جزءاً منه..

كانت تحيط بقصر منيف مهيب المنظر، يرحل بذاكرتك بعيداً إلى قصور أمراء أوربا في العصور الوسطي.. كان كالقلعة الحصينة المخيفة.. كم خاف من منظره، وكم تمني لو لم يكن القدر هو ذلك القدر ولم يكن "هو" ذلك الـ "هو".. ولم يكن المكان ولا الزمان ذلك المكان أو ذلك الزمان..


اقترب من سور الحديقة، وبدا أنه يقصد هدفاً معيناً اختاره بعناية.. كان الهدف عبارة عن ثقب ضئيل في السور، اقترب منه في حذر شديد وهو يتلفت حوله بين اللحظة والأخرى، قبل أن يضع إحدى عينيه على الثقب.. فانظر ماذا ترى؟!!..

رأى الطريق.. على جانبيه الأشجار الوارفة الظلال.. يمر به بين الحين والآخر أشخاص من بني الإنسان.. ومن بني الحيوان.. رأى الحياة.. رآها تدب بانتظام خارج حدود الحديقة الميتة.. إنه يتنفس أنسام الحرية التي حرم منها منذ نعومة أظفاره، منذ رأى الحياة..

لم يكن ثقباً صنعته الطبيعة الحمقاء.. أو خلفه عدم إتقان البناء.. كان ثقباً من صنعه هو.. صنعه ليرى الطريق.. ليرى الحياة..

  • - "تباً لك يا x.... ماذا تصنع أيها الأحمق؟"..

دوت هذه العبارة في أذنه كالرصاصة.. وصاحبتها يد ثقيلة حطت على كتفه المسكين.. فألجمت المفاجأة لسانه الأخرس.. وإن أبعد رأسه بسرعة عن الثقب، وتحول بعنقه إلى مصدر الصوت الذي كان يعرفه ويحفظه عن ظهر قلب.. إنه صوت "السيد"!!.. يا للهول!!..

نظر في خوف شديد إلى عيني "السيد" الحادتين، وتلعثم كثيراً في النطق قبل أن يقول بصعوبة:

  • - لا شيء سيدي.. لا شيء على الإطلاق..

رمقه "السيد" بنظرة حادة كالسهم المارق، وقال في حدة:

  • - أتكذب يا x ؟.. ألا تعرف أني أعلم كل ما يدور بداخلك؟.. هل جننت أم أصابك مس من الشيطان اللعين؟..

اضطرب x ولم يستطع أن يخفي هذا الاضطراب أو لعله لم يحاول إخفاءه يأساً واقتناعاً بالفشل ونقص العبد أمام السيد.. لكنه حاول أن يستجمع خلاصة شجاعته وقال وهو يشيح بنظراته بعيداً عن عيني "السيد":

  • - لم أجن ولم يصبني مس شيطاني.. لقد كنت أنظر من هذا الثقب.. هذا كل ما هنالك.. هل أجرمت سيدي؟..

لطمه السيد لطمة قوية على خده الأيسر، اهتز لها جسده كله، وسالت بعض الدموع من عينيه بشكل لاإرادي.. قبل أن يحتضنه السيد بقوة اقشعر لها بدنه.. وتمتم السيد في تأثر:

  • - لا تكلمني بتلك الطريقة مرة أخري يا x !!.. أبدا!!.. هل فهمت؟!..

بدا أن x قد ارتاح في حضن سيده فلم يبدي أية مقاومة بل أرخى رأسه على كتف سيده وأغمض عينيه بقوة.. مرت صورة "الطريق" سريعة أمام عينيه، ولم يحاول أن يهدئ مسيرها كي يمعن النظر إليها بل تركها تمضي كما مضت "الحياة".. ربما بلا عودة..

قطع شروده صوت "السيد" وهو يقول بشدة ملؤها الحنان:

  • - لماذا فعلت هذا يا x ؟.. ألا تكفيك الحديقة؟.. ألا يكفيك حلم دخول القصر؟.. أليس هذا هو الحلم النهائي الذي غرسته أنا بداخلك؟.. ألا أكفيك؟.. هل تشعر بالحاجة رغم وجودي بجانبك؟..

تطايرت قطرات من الدموع من عيني x من فرط التأثر والانفعال، وقال بصعوبة بالغة:

  • - لم أقصد ذلك سيدي.. صدقني لم أقصده..

رمقه "السيد" بنظرة ملؤها العتاب وهو يقول:

  • - ماذا قصدت إذن أيها العبد؟

فاجأه السؤال رغم منطقه، فشرد قليلا قبل أن يقول:

  • - حباً في المعرفة سيدي.. ليس أكثر..

حدجه السيد بنظرة غاضبة وقال بحدة:

  • - أية معرفة تلك يا أبله؟.. تريد أن ترى الطريق والطريق بين يديك؟.. أنا الطريق يا x .. أنا الطريق....

بدا أن خضماً من الصراعات النفسية العميقة يعتمل في نفس x ، قبل أن يقول في جرأة كان هو نفسه أول المدهوشين لها:

  • - سيدي.. لقد مللت هذا السجن اللعين.. منذ ميلادي لم أر غير هذه الحديقة.. حتى القصر تمنعني من دخوله.. كان لابد أن أرى الطريق بالخارج.. كان لابد أن..

قاطعه السيد في عصبية بالغة وهو يقول:

  • - تباً لك.. أتسمي حياتك الهانئة سجناً؟... يالك من جاحد ناكر الجميل.. ألم أكن أنا من قام برعايتك منذ نعومة أظفارك؟.. لولاي أنا لما كنت أنت.. لا قيمة لك بدوني.. لو خرجت من هنا ستصير حياً ميتاً..

ثم اقترب منه في حنان وقال:

  • - تريد أن تتركني يا x ؟.. أنا سيدك.. كيف تقدر على الحياة بدوني؟.. أنسيت كم ضحيت أنا من أجلك؟.. أنسيت يوم أخطأت؟.. يوم أن رميت حجراً خارج السور فسقط على رأس طفل مسكين؟.. ألم أتحمل العذاب من أجلك؟.. لقد فديتك أيها الأحمق.. تحملت الجلد من أجلك لأني أحبك.. يا للفاجعة!!..

أجهش x في البكاء فجأة وقال وهو في غمرة حزنه:

  • - آسف سيدي.. آسف.. أنا لا أقدر على الحياة بدونك.. إنها مجرد شطحات عبد أحمق.. إنه ليس سجناً سيدي.. إنه الحياة.. إنه الحياة.. لقد منحتني أنت الحياة..



كان ممسكاً بخرطوم مياه في يده، منهمكا في ري حديقة غناء مترامية الأطراف، عندما فوجئ بكرة صغيرة تسقط داخل الحديقة.. لقد أتت من الخارج.. من الطريق.. بل من الأرض الميتة..

سمع صوتاً يقول:

  • - سيدي.. سيدي..

فزع للحظة.. ثم استغرب البقية الباقية من عمره.."سيدي".. هل هذا الصوت يناديه هو؟.. هل يخاطبه بـ "سيدي"؟.. هو.. أنا.. ذلك الكائن الذي لا يحمل اسماً من شدة خطاياه.. ذلك الكائن الذي لم يرد "السيد" أن يمنحه اسماً.. فبقي يخاطبني باسم " x "...

اقترب من سور الحديقة حتى وصل إلى الثقب الذي وعد سيده أنه لن ينظر منه للخارج مرة أخرى.. "السيد" وثق به ولم يرد أن يسد الثقب فهل هو أهل للثقة؟..

لم يفكر كثيراً بل ألصق وجهه على السور ونظر من الثقب فرأى طفلاً صغيراً يبكي بشدة.. إنه الحياة.. رفع صوته قائلاً:

  • - ماذا هنالك؟.. لماذا تبكي؟..

اقترب الطفل من الثقب، فابتعد هو عنه كي يتسنى للطفل رؤيته.. لم يرد أن يرى الطفل عينه فيسبب له شيئاً من الفزع.. إنه يكفر عن خطيئته القديمة.. يوم قتل الطفل المسكين.. سمع الطفل يقول:

  • - سيدي.. لقد وقعت مني الكرة بالداخل.. هل من الممكن أن تقذفها لي؟.. ماما سوف تعنفني كثيراً لو أضعت الكرة.. أرجوك سيدي..

وبلا تفكير.. أسرع العبد نحو الكرة وقذفها للخارج، ثم نظر مرة أخري من الثقب فرأى الطفل يقفز من الفرحة ويقول:

  • - شكراً سيدي.. لقد منحتني الحياة..



كنت ممسكاً بخرطوم مياه في يدي، منهمكاً في ري حديقة غناء مترامية الأطراف، بيدي سكين.. رأيت "السيد" يقترب.. لم أفزع.. صحت قائلاً:

  • - سيدي.. أنا راحل من هنا..

ألجمت المفاجأة لسان "السيد" فانتهزت الفرصة وأكملت حديثي قائلاً:

  • - أنا ذاهب للحياة.. للطريق.. لا أريد قصراً تمنيني بدخوله منذ مولدي.. أريد الطريق.. أريد الحياة.. أنا أستحق الحياة.. لم أخطئ.. لقد قتلت الطفل بغير عمد..

أخذ يردد عبارة "أريد الحياة" بطريقة هستيرية وهو يغمد سكينه بقلب "السيد", قبل أن يصرخ ويصيح:

  • - لقد مات "السيد".. لقد مات "السيد".. لقد منحت نفسي الحياة..



كنت ممسكاً بخرطوم مياه في يدي, منهمكاً في ري حديقة غناء مترامية الأطراف.. أمنحها الحياة.. لي قيمة بدونه.. بدون "السيد"..

أسقي من يشعر بالظمأ.. أحنو على من يتألم من شدة القيظ.. أمنحه الحياة.. أمنحه الحياة.. أنا الطريق.. أنا الحياة..


أهل القرية

أهل القرية

"قصة قصيرة"



منذ ولدت وأنا أرى أمامي ثلاثة نماذج للحياة في قريتنا الضائعة...

وهي قرية ضائعة بالمعني المادي والنفسي، فهي قرية مغمورة من قرى الدلتا لا يسمع عنها أحد من ساكني المدن أو من القرى المجاورة، لا تتمتع بأبسط حقوق الآدمية، فهي محرومة من مياه الشرب، رغم أنها تبعد عن نهر النيل العظيم مسافة ثلاثين كيلومترا، ورغم أن هذا النيل نفسه يروي قرى مثلنا على ساحل البحر المتوسط تدعي "قرى سياحية" بأفضل وأنقي مياهه، ومع ذلك فقد سمعت أن ساكني هذه القري يأنفون من مياهه ويستعيضون عنها بمياه معدنية تخرج من أنقي آبار مصر الجوفية!

من هنا كانت قريتنا ضائعة ماديا.....

أما الضياع المعنوي فقد كان ناجما عن الحالة النفسية المتدهورة لسكان قريتنا، فالتعليم يكاد يكون منعدما.. المدرسة الوحيدة مكتظة بالتلاميذ.. الفقر مدقع.. الأطفال حين يكبرون وينهون تعليمهم الجامعي يكتشفون بعدها أن الطريق مسدود وملئ بالمطبات بدءا من المستوي الاجتماعي الذي يحكم علينا كلنا أهل القرية بأننا عبيد الأرض لا نرقى إلى مستوى السادة، مرورا بالجهل باللغة الإنجليزية ولغة العصر اللتين سمعنا عنهما في الكتب، ووصولا إلى الوساطة التي لا نملك من أهدابها سوى "عم كامل" الذي هاجر إلى طنطا ليعمل كاتبا في نيابتها.. وعلى الجملة، فنحن ذباب لا يستحق الحياة إلا متعلقا بذيول سادتنا.. هذا إن قبل السادة..

ومن هنا كان الضياع المعنوي....

أما عن نماذج الحياة في قريتنا التي ذكرتها آنفا فذلك موضوع يستحق التوقف عنده...

النموذج الأول هو صاحب السعادة "واصل أفندي" رمز النجاح الخارق في قريتنا الضائعة..

كانت عائلة واصل أفندي عائلة عتيدة في الضياع!!..

جده الأعظم والأكثر ضياعا استدعاه مراد بك إبان حملة الفرنساوية ضمن آلاف من الشبان الأقل ضياعا.. لبى جده نداء الجهاد وسمع فتاوى فحول الأزهر فحمل سيفه، وذهب رأسا إلى ربه في السماوات العلا إثر رصاصة طائشة جاءته من أحد زملائه في أول تجربة له لحمل البنادق!!..ولم يفز جده المسكين من ثم بجوائز الشهيد التي يحصل عليها فور شهادته.. أخبرتني أمي الراحلة حين استحضرت روحها أنه من أتعس أهل الجنة!!.. بضربة واحدة كان سيقفز إلى الفردوس، ولكن هيهات.. تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن!!..

جده الأقل عظمة كان أول من تعلم القراءة والكتابة في قريتنا إبان عهد محمد على باشا الكبير،استدعوه عند حفر قناة السويس في عهد سعيد باشا طيب الله ثراه، فشارك في الحفر خدمة للوطن وإعلاء لكلمة الله، لكنه لبي نداء ربه إثر مشاجرة مع زميله قتل كل منهما فيها الآخر.. أخبرتني أمي أنه الآن من أهل النار، ولو انتظر قليلا لمات في أعمال الحفر ولاستحق حينئذ دخول الجنة التي تمتلئ بزملائه الأبرار..

لكن قنبلة الضياع في هذه العائلة الميمونة كان بلا شك عباس أفندي الجد المباشر لواصل أفندي، والذي كان من أشد المتحمسين لـ"سعد زغلول باشا" وشارك في ثورة 1919 بكل قوته، وعندما احتل الإنجليز قريتنا وأعملوا فيها السلب والنهب والاغتصاب رأى في ذلك انهيار حلمه وصور له خياله أن الحرية التي حلم بها الجنس البشري قد ماتت بلا عودة فانتحر.. أخبرتني أمي أنه في الدرك الأسفل من النار.. أما سعد زغلول باشا فقد صار بعد رئيسا لوزراء مصر ومات وهو على عرش المجد بل إن أمي تقول أنه يحتل مكانة لا بأس بها في الجنة.. رحمة الله عليك يا عباس أفندي..ويلي مغفرتك يا إلهي فطلب الرحمة لا يجوز لمن مات كافرا..

وهكذا كانت عائلة واصل أفندي تمضي من ضياع إلى ضياع، إلى أن ولد واصل أفندي قنبلة النجاح المتفجرة في العائلة المنكوبة...

كان واصل أفندي في بدء حياته (وربما في نهايتها) لا يبدي أي استعداد طبيعي للنبوغ والتفوق.. كان في أسفل درجات الفقر.. ثيابه كانت بالنسبة لنا في القرية تدعو للشفقة.. لا يستحم إلا في الأعياد المقدسة، ولا يلمس الماء جسده العفن إلا في غفلة من الزمن...

لكن حياته تغيرت فجأة.. ففي يوم ضائع لم يحتسب ضمن أيام التاريخ جاء خطاب بطريق الخطأ إلى واصل أفندي يفيد بأنه سيعين في إحدى الوظائف الميري الكبرى في قاهرة المعز.. كانت القاهرة ومازالت بالنسبة لنا كنيويورك بالنسبة إلى مقديشو.. أرض الأحلام.. في ذلك اليوم جاء واصل أفندي إلى منزلنا ليقترض قميصا وبنطلونا من والدي الراحل.. هذا القميص وذلك البنطلون اللذان كان مفخرة أبى وأهل القرية لا يرتديهما شخص إلا للحفلات الكبرى كالعرس والختان.. أذكر أنه اقترض كذلك حذاء أبى لكي يكمل الأناقة.. لكنه نسي أن يقترض جوربا فارتدي الحذاء بلا جورب.. في قريتنا الناس يخدم بعضها بعضا بكل ما يملك.. فأعطاه والدي ما أراد...

رحل عنا واصل أفندي ليذهب إلى القاهرة.. فصدم فيما يعرف بصدام الحضارات.. رأى السيارات الفارهة بدلا من الحمير والبغال.. رأى الطرق الممهدة.. الثياب التي لم يرها بشر لدينا..اكتأب لأيام وأحس بالنقص والضياع لكنه أفاق بعدها أكثر إصرارا على المضي في طريقه.. وبالفعل تغير واصل أفندي.. تعلق بأهداب السادة وارتشي.. وتنكر لنا نحن أهله وعشيرته.. عندما زاره أهل القرية ذات يوم تحجج بأنه ليس لديه الوقت الكافي للزيارة فرد أهل القرية خائبين.. منذ ذلك اليوم وأهل القرية يقسمون بأن واصل أفندي لن يرى خيرا...

لكنه رأى الخير كل الخير.. ترقي في المناصب.. انتقل من نجاح إلى نجاح.. دخل المجلس الموقر كنائب عن إحدى القري المجاورة (عندما تبين له أنه لا يملك أية شعبية لدينا) وعين وزيرا للتعليم العالي (ذلك الذي لم يقرأ كتابا في حياته)..

ومن جهة أخري بدأ واصل أفندي يعمل لآخرته كأنه يموت غدا، فبدأ يصلي ويصوم.. زار البيت الحرام أكثر من ستين مرة.. ابتعد عن كل شهوات الدنيا..تبرع بأغلب ماله للأيتام والمساكين.. والآن هو في الفردوس الأعلى كما أخبرتني أمي وهي تتميز من الغيظ.. لعن الله واصل أفندي.. أستغفر الله.. رحم الله واصل أفندي ووسع له في جنات النعيم والحور العين والإستبرق!!


أما النموذج الثاني للحياة فهو وحيد أفندي رمز العلم الصارخ في قريتنا الضائعة.. لكن عائلة وحيد أفندي كانت لا تمت للعلم بصلة بل نموذجا في الجهل المعيب!!..

جده عاش طيلة عمره لا يعرف كيف يقرأ حرفا، أو حتى يكتب اسمه.. كان مؤمنا بشفاعة الأولياء إلى أبعد الحدود.. ذات يوم اتهمه أحد الشيوخ بأنه مشرك تماما مثل أبى جهل، لكن الرجل لم يهتم واستمر على قناعته وإيمانه إلى أن مات وهو يبكي في ضريح السيدة نفيسة.. واختلفت فيه الآراء.. قال البعض هو في النار حتما أما الآخرون الأكثر تسامحا فقد قالوا ربما يغفر له الله ذنوبه وأكد الجاهلون من أمثاله أن السيدة نفيسة ستشفع له لا محالة، وأنه سيلقي النعيم الأبدي في جنات عدن، أمي أخبرتني أنه يتردد بين الجنة والنار ولا أحد يعلم مثواه الأخير..

لكن وصمة العار الأبدية في عائلة وحيد أفندي تمثلت في أمه.. فوحيد أفندي جاء إلى الدنيا إثر علاقة آثمة بين والده وبين عاهرة مرت بالقرية فعلت فعلتها الشنعاء وأنجبت وليدها ثم رحلت بلا عودة..

أما وحيد أفندي فقد نشأ عاشقا للقراءة وكارها لأهل القرية الذين كانوا دائما ينظرون إليه بشماتة مذكرين إياه بأصله الوضيع.. فوحيد أفندي فضلا عن أمه الطاهرة كان قد رزق بأب من الأبرار الفجار.. أب من هؤلاء الذين ماتت قلوبهم فلم تعد تخش العزيز الجبار..لا يتواني عن فعل المعاصي بليل أو نهار.. كان أبوه قد أمضي حياته العطرة دون أن يصلي ركعة واحدة.. زجاجة النبيذ كانت لا تفارق يده.. لم يفق من دنيا الأحلام التي يحلق بها سوي مرة واحدة عرف فيها بميلاد ابنه الوحيد "وحيد" لكنه لم يصدق أنه ابنه وظل يتهم العاهرة بالكذب ويقذفها بأقذر الشتائم، لكنها بادلته السيئة مثلها وأوسعته ضربا وتركت له ابنه المزعوم وهربت من قريتنا.. كانت تلك الحادثة من الحوادث الشهيرة في تاريخ قريتنا المجيد، بل تكاد تكون أهم حادثة في تاريخه، فالتاريخ انقسم بسببها إلى قسمين "ما قبل معركة العاهرة مع أبو وحيد أفندي الفاسق" وما بعدها. تماما مثلما قسم فتح العثمانيين للقسطنطينية التاريخ إلى عصور وسطي وعصر حديث. هكذا كان ميلاد "وحيد أفندي" مولد الحداثة في قريتنا البدائية.

والحق أن وحيد أفندي لم يتوان عن تحديث قريتنا بكل السبل مدفوعا بكراهية محمومة للتخلف البادي في وجوه الأهالي، فحاول أن يعلم أهل القرية القراءة والكتابة لكنهم لم يتقبلوا تلقي العلم على يد شخص "ابن عاهرة" أو "ابن كلب" مثله، فتهكموا عليه مثلما حدث للأنبياء والرسل وكافة المصلحين ودعاة التنوير.. هكذا كان وحيد أفندي يردد دوما أنه لا كرامة لنبي في وطنه وأنه ربما يلقي مصير سقراط فيتم إعدامه، فقذفه أهل قريتنا الأجلاء بالبيض الفاسد. منذ ذلك اليوم ووحيد أفندي يؤثر السلامة والوحدة، لكنه اقترب يوما من شباب القرية يحاول إصلاح عقولهم الفاسدة على حد زعمه، فأوهمهم أن كل الأديان والفلسفات هي محاولات للفهم وأنه لا ميزة لأحدها على الأخرى، وأن كل عقل يختار ما يلائمه من عقائد، وأن الشعائر (كالصلاة والحج) ليست بذات أهمية.. قاتله الله!!.. لكنه تلقي العقاب الذي يليق بأمثاله فتم ضربه بالفلقة حتى تورمت قدماه، ولكي يثبت حسن نواياه بعد ذلك سب مسيحيا في الطريق بلا أي سبب وقذفه في المصرف فكادت تحدث فتنة طائفية لولا أن شيوخ القرية قرروا ضرب وحيد أفندي بالفلقة مرة أخرى فنال العقاب استحسان الجماهير السادية المتعطشة للقتل والتعذيب.. بعدها أصبح وحيد أفندي معزولا تماما يحتقره المسيحيون ويلعنه المسلمون المتسامحون والسماوات العلا..

وعندما وافته المنية، لم يلحظ أحد اختفاءه، لولا أن رائحة جثته المتعفنة قد فاحت فتم كسر الباب وإلقاء الجثة في المصرف.. والعجيب أنه وجد محتضنا "إنجيل المسيحيين" عند موته.. فسبب ذلك خلافا شديدا في الرأي بين أهل القرية.. المسلمون يؤكدون أنه في النار، أما المسيحيون فيؤكدون أن يسوع قد أخذ بيده من دنيا الشيطان إلى دنيا الله.. أمي تؤكد إنها لم تره في الجنة، وأنه ربما يكون قد ذهب إلى جنة المسيحيين المزعومة. وتكاثرت الشائعات حوله.. بعض أنصاره الملعونين قالوا أنه رفع إلى السماء لا إلى المصرف وأنه المهدي المنتظر الذي سيملأ الدنيا عدلا، واتخذوا بيته مقصدا للحج والبركة، يطوفون حوله كأنه الكعبة ويقبلون جدرانه.. والبعض الآخر يقول أنه المسيح الدجال ويؤكد أحدهم أنه قرأ بنفسه كلمة "كافر" مكتوبة بوضوح على جبينه وأن "وحيد أفندي" من ثم يعد من علامات الساعة الكبرى.. والبعض شبهه بالحلاج الفاسق المتأله.. لكن المؤكد أن ميلاد وحيد أفندي كان نقطة فاصلة في تاريخ القرية الذي يجري بلا هدف وبلا انقطاع.. لعن الله وحيد أفندي وأمثاله من الملاحدة والزنادقة والدجالين والحلاجين وكل من حذا حذوهم..

النموذج الثالث للحياة في قريتنا البائسة هو والدي "عبده أفندي" أحد أقدم الفلاحين والمزارعين في قريتنا والذي وافته المنية وهو يحرث أرضه فروى الأرض بدمائه!! وعلى عكس "واصل أفندي" رمز النجاح الضائع و"وحيد أفندي" رمز العلم الضار، لم يكن والدي "عبده أفندي" رمزا لشيء على الإطلاق..

ولعل مصدر فخر "عبده أفندي" الأعظم هو ذلك التمثال الحجري الذي ورثه عن آبائه وأجداده والذي تناقلته الأجيال– على حد زعمه– منذ عهد "سنوسرت الثالث" أحد ملوك مصر المحروسة في عهدها الغابر. والتمثال يمثل الفلاح في ذلك العهد بكل ما يملك من كرامة وعزة نفس. فالجد الأعظم لـ "عبده أفندي" (وهو صاحب التمثال) كان من أشد المناصرين للسياسات الإصلاحية التي اتبعها الفراعنة من شق الترع وبناء الجسور، لكنه انقلب عدوا للنظام– وإن لم يصرح بذلك إلا لذاته– بمجرد أن أدى شق الترعة إلى ضياع أرضه، وناصر الهكسوس حين قالوا أنهم المصلحون في الأرض. وهكذا لم يكن ذلك الجد يهتم بشيء سوى الأرض وقوت يومه.

لكن الله نزع الموهبة من آل عبده أفندي فشجرة عائلته لا تحوي سوى فلاحين مساكين، غير أن "عبده أفندي" كان يفخر بكونه فلاحا أصيلا لا مهجنا كدجاج المزارع. ومثلما يؤكل الدجاج بعد أن يذبح وينتف ريشه فإن آل عبده أفندي تم ذبح أي نبوغ لديهم ونتف أية آراء ناشئة في عقولهم وأكل محصول أرضهم...

وتعرض عبده أفندي ذات يوم للمحاولات الإصلاحية التعليمية من قبل وحيد أفندي, فآلمه بدرس شاق عن الذات والموضوع, وما إذا كان للأشياء وجود خارجي مستقل عن ذواتنا العارفة. وكانت حصافة عبده أفندي, من حيث تظاهره الكاذب بالفهم, الأمر الذي جعل الموقف يمر بسلام لولا السؤال الذي ألقاه عليه وحيد أفندي في نهاية الدرس ليتأكد من استيعابه للموضوع, فما كان من عبده أفندي إلا أن قال وقد فاض به الكيل: "لعن الله أمك يا وحيد أفندي, وحرق ذاتك مع موضوعك مع أمك العاهرة مع أبيك القواد في نار جهنم.. جميعا بإذن الله يا ابن العاهرة".. فأصابت الدهشة وحيد أفندي إذ أدرك أن عقل والدي عجز عن استيعاب تلك المشكلة الفلسفية التي كانت, وارتفاع الأسعار, حديث القرى المجاورة في مصر والعالم لسنين طويلة..

وكان عبده أفندي رجلا عمليا يزرع ويحصد نتاج ما زرع ويسلمه للحكومة.. قال له وحيد أفندي ذات يوم: "أنت براجماتي يا عبده".. فسب والدي أم وحيد أفندي ورد له السيئة قائلا باقتدار: "وأنت برميل قذارة يا وحيد القرن".. كنت ترى في عينيه أنين الشكوى من الحكومة مكتوما ودموع الحسرة حبيسة!!.. لكنه لم يكن يشغل باله بالمسائل التافهة.. فلم يعنه أبدا إذا ما كان وحيد أفندي محقا أم لا.. كان يصدق المشايخ ويعبد الله ويأكل ويشرب ويعالج نفسه بالسحر ويتبرك بالأولياء.. وأكاد أجزم أنه قد ذهب مرة ليطوف عشرا حول بيت العارف بالله "وحيد أفندي" بعد وفاته. ينادي مع الداعين على الحكومة (لكن دعاءه سري)، ويسعد إذا ما رفعت الحكومة سعر القطن قرشا واحدا, ويقبل يدي وقدمي العمدة إذا رآه.. يقولون أنه سرق قصيدة من قصائد رابعة العدوية في العشق الإلهي, وأرسلها إلى مأمور المركز زاعما أنها قيلت على لسان عدوية في عشق الحكومة.. سألته مرة: هل تحزن لو احتلنا مستعمر؟ قال: إذا بقيت أرضي فليذهب الكل إلى الجحيم..

قالت أمي أنه قضي في النار ليلتين جزاء هذه الجملة المنطوية على حب الذات.. لكنه الآن يحرث أرض النار وأرض الجنة لا يضيره أيهما يحرث وأيهما يزرع طالما ينال امرأة فاتنة من الحور العين وكأسا من الخمر بعد نهاية يومه الشاق!!.. رحم الله والدي "عبده أفندي" ووسع له في رزقه..


اليوم ماتت أمي

اليوم ماتت أمي..

"قصة قصيرة"


اليوم ماتت أمي..

استيقظت على صرخات أبي الرهيبة فوجدتها جثة هامدة فقدت الحياة.. كان الأمر أشبه بحلم مزعج.. كابوس مخيف.. لم أتمالك نفسي فبكيت..

ثم وجدتني أعدو مسرعا خارج المنزل..

نقطن بقرية صغيرة تبعد عن أقرب مبعوث للمدنية مسافة ليست بالقليلة، على الأقل لمن اعتاد السير على الأقدام مثلي.. لكن القرية هي العالم عندي.. بيتنا الصغير.. الحقل الأخضر.. البحيرة الزرقاء.. تماما مثلما لا تعرف النواة سوي الذرة التي تحملها..

لدي من العمر عشر سنوات..

أعدو حتى يصيبني الإجهاد.. أهرب من آلامي وأحلامي المزعجة.. حتى أصل إلى البحيرة.. وهناك.. كما توقعت.. وجدتها جالسة..

كانت سيدة عجوزا.. هكذا أدركها منذ رأيتها أول مرة.. تحمل داخل تجاعيدها خبرات آلاف السنين، وآلام ملايين البشر.. كانت دائما تجلس في ذات المكان، تحتل صخرة متهالكة أمام البحيرة الميتة، ترقب المياه في هدوء الإله، وكأنها ترانا، نحن كل الكائنات، ترانا من الخارج... من خارج الذرة.. كنت دائما أخشاها.. أخشى مجرد الاقتراب منها.. أطفال قريتنا يقولون أنها سفيرة الشيطان.. جاءت لتعبث بأقدارنا وبأحلامنا.. لكني في ذلك اليوم لم أجد سواها..

  • - "ماما" ماتت..

كانت الكلمات تخرج بصعوبة من فرط الدموع.. خرجت تحمل كل معاني المأساة البشرية.. لكنها خرجت غريبة عني، فلم يكن بالإمكان أن أتصور أنني صاحب المأساة هذه المرة.. خرجت وكأنها من خارج العالم.. لم يبد عليها أية دلالة على أنها قد سمعتني.. الوجه مازال شاخصا ببصره إلى بحيرة الآلام.. قبل أن أكرر العبارة سمعت صوتها الآتي من العالم الآخر يقول:

  • - هل أنت متأكد من ذلك؟

اندهشت من صوتها العميق.. أجبت:

  • - سيدتي.. إنها لا تتحرك.. انهم يعدون العدة لدفنها..

هزت رأسها بتفهم وكأنها الحكيم الذي يحمل في طياته كل معالم الطريق.. التفتت نحوي وقالت:

  • - فلتلقوا بجسدها في البحيرة حتى أراها كل يوم.. إن الموت هو المعني..

كانت تتحدث بلهجة من ينهي الحوار.. لكني كنت أريد المزيد.. كان غموضها يجذبني إليها.. قلت:

  • - لكني حزين.. أشعر بالانهيار.. بانعدام المعني...

قالت بغير اكتراث:

  • - لماذا؟..

فوجئت بالسؤال.. أما تشعر هذه العجوز الخرقاء بالفاجعة؟.. أجبت:

  • - لقد ماتت ماما.. ودعتني إلى الأبد.. لن أراها بعد ذلك لا في المنزل.. لا في الحقل الأخضر.. لا في البحيرة الزرقاء.. لن أسمع صوتها.. صارت مجرد ذكرى.. صورة وسط صور الراحلين من عائلتي.. أنا..

توقفت عن الكلام.. أوقفني البكاء والدموع المنهمرة.. كان جسدي الصغير ينتفض.. شعرت بيدها المتهالكة تربت على كتفي.. سمعتها تقول في إشفاق ربما احتجته فتصورته:

  • - لا عليك يا ولدي.. إنها الحياة بكل قسوتها ومرارتها.. فلتذهب لتراها كل يوم.. الموت مصنع العبر..

صرخت محتجا:

  • - لقد سئمت أحاديثكم أيها الكبار.. كرهت هذه النصائح الغالية والعظات القيمة.. فلتهبطي من عليائك سيدتي إلى ارضي المتواضعة.. لدي من العمر عشر سنوات..

قالت مبتسمة تلك الابتسامة المشفقة على جهلي التي أعرفها جيدا:

  • - حسنا يا عزيزي.. ماذا أقول لك؟.. ماما لم تمت.. هل يريحك ذلك الحديث؟..

قلت والدموع بعيوني:

  • - نعم.. هي لم تمت..

قالت:

  • - ألست مؤمنا؟
  • - بلي..
  • - إذن فهي حية.. الروح باقية.. الجسد مات.. لقد خرجت من الذرة إلى العالم الحقيقي.. من الفيزيقا إلى الميتافيزيقا.. ستلحق بها يوما ما حين يحل أجلك..
  • - فلأنتحر إذن.. أنا مشتاق لرؤيتها..
  • - لا.. إن كنت مؤمنا فلا تكسر النظام الإلهي.. افعل ما هو مرسوم لك فقط..
  • - وما معني محياي ومماتي إذن؟..
  • - هذا ما أحاول إدراكه في البحيرة منذ أدركني التاريخ..

ضربت بيدي الصخرة في غضب طفولي، كمن خاب أمله في المعرفة، قالت:

  • - لا تضرب الصخرة.. ربما كانت تشعر بالألم مثلك..
  • - لكنها لن تموت..
  • - كذلك أمك.. ألم تقل إنك مؤمنا؟..

قلت بنبرة تكسوها العصبية:

  • - اقصد أن أمي فقدت جسدها، أما الصخرة فجسدها باق يتحدى الزمان..

قالت بهدوء مستفز:

  • - ليس ثمة كائن يرضي عن مصيره.. إنسان يملك روحا وجسدا يفقد الجسد وتخلد الروح.. صخرة بجسد ولا روح.. أليس من حقها أن يخلد جسدها؟!.
  • - ومن يدرينا لعل لها روحا هي الأخرى؟..

عقدت حاجبيها في تفكير عميق ثم قالت:

  • - مسائل الميتافيزيقا لا يمكن حلها.. تأتي من خارج الذرة.. يستحيل على الغارق في بحر الهيولي التفكير فيها بوضوح.. الأفضل أن نحيا داخل حدودنا..

قلت باستنكار واضح:

  • - سيدتي.. كنت أظنك الوحيدة التي تحيا خارج حدودنا.. يالخيبة الأمل!..

قالت وكأنها لم تسمعني:

  • - نعم.. الحياة داخل الحدود افضل.. الموت هو المخرج..

ثم باهتمام مفاجئ:

  • - ألم ترقب البحيرة من قبل؟..

قلت:

  • - أحيانا.. كنت اخرج مع أبى للصيد.. كنت أراقبها بالساعات..
  • - ألم تلحظ شيئا؟..

قلت بحماس الأطفال:

  • - بلي.. كانت تثور وتتوعد حين أخطف سمكة من أسماكها.. أحيانا أشعر أن روحها خالدة.. كل الأشياء تملك أرواحا.. أظن روحها تدعي بوسيدون.. هكذا أخبرني أبى يوما، فهو مغرم بالأساطير..

عادت إلى وقارها لتقول:

  • - ما الحياة إلا أسطورة..

ثم بذات الحماس:

  • - لكن البحيرة في تغير دائم.. مياهها لا تهدأ.. لا تبقي عين ذاتها أكثر من لحظة في عمرها.. إن افترضت لها بوسيدون، أضفيت عليها المعني، وخرجت بعيدا عن الذرة.. أما إن تر سوي التغير، نفيت المعني عن الوجود..

قلت ببراءة:

  • - التغير.. نعم سيدتي.. ماما تغيرت كثيرا قبل موتها.. كانت أكثر هدوءا من أي وقت مضي.. وكأنها ترى آفاق المستقبل..
  • - وها هي قد تغيرت كثيرا الآن.. لقد فنيت..

ثم قالت بحماس بالغ:

  • - أتعرف ما المشكلة يا صغيري؟..

هززت كتفي حائرا فقالت:

  • - المنظور.. لقد فرض علينا بحكم تكويننا أن لا ندرك العالم سوى من منظور معين، لكننا امتلكنا كذلك القدرة على إدراك إننا محدودون..

صمتت لحظة ثم استكملت حديثها بذات الحماس:

  • - نحن نمنطق اللامعقول بآلاف المعاني الزائفة.. نكسو العالم بحلة زائفة براقة من المعاني التي تجعله فكرة قابلة للإدراك.. نكسوه بالعدد.. بالكلمات.. بالعلاقات المنطقية والرياضية.. بحواسنا التي لا ترى البحيرة من حيث هي ذرات وإنما من حيث هي مياه وأسماك وتغير وبوسيدون.. المشكلة يا صغيري هي المنظور..

بدت على علامات عدم الفهم فقالت في حنان أعاد أمي إلى الحياة:

  • - لا عليك يا ولدي.. فلتمنطق حياتك كما يحلو لك.. الحياة بدون المنطق لا تطاق..

سألتني في إشفاق:

  • - ماذا كانت ماما لديك؟..
  • - كانت المغزى.. سر الحياة.. فيض الحنان.. نهر الحب الذي لا ينضب..
  • - كنت ترى فيها ظل الإله؟..
  • - ربما.. لكنها ماتت وكذلك مات الإله..
  • - فلتكتف بصيد الأسماك يا عزيزي..

قالتها ورددتها مرارا.. ارتميت في حضنها العجوز.. انهمرت دموعي أنهارا.. نظرت إلى البحيرة فوجدتها قد تغيرت.. لم يبق منها سوي الاسم!!..


بعد ثلاثة شهور كاملة.. كنت قد نسيت أمي.. جرفتني الحياة في تيارها.. عدوت مسرعا خارج المنزل.. ذهبت إلى البحيرة فوجدتها جالسة على صخرتها المتهالكة.. بمجرد اقترابي منها سمعتها تقول:

  • - أهلا يا عزيزي.. أيام كثيرة مضت منذ التقينا.. كيف حالك اليوم؟!..

قلت والدموع تنهمر من عيوني:

  • - سيدتي.. أمي التي ماتت.. اكتشفت البارحة أنها ليست أمي..

التفتت نحوي باهتمام بالغ وقالت:

  • - كيف ذلك؟..
  • - عندما بدأنا في تقسيم الميراث فوجئت بأبي يقول "إنها لم تكن أمك".. وإذا بي أعرف أني ابن صياد مات غارقا بعد مولدي بعام واحد.. تركتني أمي الحقيقية ورحلت من قريتنا، ليتكفل بي أبى المزعوم وأمي الزائفة..

ابتسمت ابتسامة العالم ببواطن الأمور وقالت:

  • - هل ترى البحيرة يا عزيزي؟..

قلت من داخل أحزاني:

  • - نعم سيدتي.. أراها..
  • - اغمض عينيك.. هلي تراها الآن؟..
  • - لا..
  • - إذا قلت لك أن البحيرة غير موجودة الآن، وإنها قد زالت من قاموس الحياة.. هل تصدقني؟..
  • - لا. فأنا أسمع صوتها..
  • - سد أذنيك.. ما قولك الآن؟..
  • - لا أستطيع الحكم.. لابد أن أفتح عيني حتى أحكم على ما تقولين..
  • - صغيري.. لا عليك مما يقولون.. كن كما تريد أن تكون.. ولتكتف بصيد الأسماك يا عزيزي..

ثم بصوت هامس:

  • - هم أيضا لا يعرفون هل بقيت البحيرة أو زالت من الوجود..

رددت بلا وعي:

  • - غدا أخرج للصيد..


لا أعرف كم مضي من عمري بعدها.. كانت السنوات تمضي سريعة.. صيد الأسماك يشغلني.. أذكر أنى تزوجت وأنجبت.. كبر الأطفال وماتوا.. كنت أتحاشى الذهاب إلى البحيرة حتى لا أراها فربما كانت اليوم اشد إخافة للنفس عما مضي..

بعد عشرين عاما ذهبت إليها.. كانت جالسة على صخرتها المتهالكة.. سمعتها تقول بصوتها الآتي من العالم الآخر:

  • - أهلا يا صغيري.. جئت تودعني..

التفت إليّ بوجهها المخيف الذي آلمته التجاعيد.. نظرتها الغريبة الزائغة.. ترى فيها آلام الماضي السحيق.. لكنها اليوم فقدت كبرياءها وهدوءها.. كانت خائفة وكأنها ارتضت أخيرا بالدخول في الذرة.. قالت وهي تنظر إلى البحيرة:

  • - أنا على مشارف الموت يا عزيزي..
  • - لا سيدتي.. أنا احتاجك..
  • - إنها سنة الحياة يا صغيري.. كثيرا ما أطرق برأسي.. أشرد بعيدا في آلامنا.. أرى دماء الشهداء وأحلام الصغار والأبطال.. أظنني قد حل بي الموت.. ثم أفيق فأجد الصخرة والأسماك.. لكنني هذه المرة أشعر حقا بدنو الأجل..
  • - كيف سيدتي؟..
  • - أنفاسي تختنق.. لا أقدر على تحريك أطرافي.. إني....

توقفت عن حديثها من فرط الدموع فضممتها إلى قائلا:

  • - لا عليك يا صغيرتي.. لقد أديت ما عليك.. لقد أريتني الطريق..

قالت متهدجة:

  • - لكني خائفة.. عندما كنت صغيرة كنت أرى الموت بعيدا بعيدا.. كنت أقول عندما تصيبني الشيخوخة سأفكر في الموت.. لكني مازلت أخشاه تماما مثلما كنت طفلة..

كانت قد ارتاحت على صدري.. قلت لها في إشفاق:

  • - لا تخشي شيئا.. التغير هو المعني..

وجدت دموعي تفلت من عقالها.. حتى هذه العجوز تخشي الموت.. تلك التي ما إن تراها حتى تذكره في أبشع صوره.. كيف تخلت عن هدوئها وغموضها الخلاب؟..

بدا أنها قد ماتت حقا.. حركتها سكنت.. دموعها انقطعت.. صوتها العميق عاد من حيث أتي.. طبعت قبلة أخيرة على جبينها..

عندما أتى المشيعون، أشرت إلى جسدها المتهالك كي يلقوه في البحيرة قائلا:

  • - لقد ماتت..

وبدلا من أن تمتد أيديهم إليها وجدتهم يمسكون بجسدي الضعيف.. سمعتهم يقولون:”فليرحمه ربه إن شاء".. سمعت عبارات تشيد بمحاسني.. سمعت العظات القيمة.. سمعت أمي ترحب بقدومي.. البكاء.. الصراخ.. العويل.. ثم ألقوا بي في البحيرة..

ومنذ ذلك اليوم لم أعد قادرا على الذهاب إلى العجوز عند البحيرة وهي جالسة على صخرتها المتهالكة، لكني كنت أشعر بتأملاتها..