(١)
هيلانة
وتتوقف قدماه عن السير من شدة التعب بعد ساعات من المشي بلا هدى. ويتأفف من العرق والحر والشمس تصعد من رقدتها الليلية إلى كبد السماء. ويختلط عرقه بدموعه. لكنك ستدفعين الثمن يا "هيلانة". ستندمين. وستتوسلين لي أن أرحمك لكني لن أفعل. وكيف لي أن أفعل؟
وتتنهد "هيلانة". يراها بين أحضان عشيقها في ليلة مقمرة. أغرق في صدره. يُقبَلني. ليس الرجل الأول بحياتي. لكنني أشعر بين أحضانه بطعم مختلف. ولا أشعر بالخطيئة. بل أرى المسيح يظللنا بصليبه. وتحل بركات مار جرجس بنا. وكأنه فوق صهوة جواده يقتل الوحش ويحملنا معا ويحمينا من شهوة الحب وسطوة الخوف ويصنع بنا المستحيل. ليس الحب خطيئة. الله محبة. والحياة حب بين طرفين. الكنيسة والمسيح. الليل والنهار. النيل والأرض السوداء. وليس على البشر إلا الخضوع لمجريات الأمور وتصاريف الأقدار.
وتأبى الصورة أن ترحل عن ذهنه. صورة "هيلانة" في أحضان "شنودة". التزمتُ الصمت يا "هيلانة" ورحلت عن المكان. ولكنك تعلمين ماذا كنت أستطيع أن أفعل. والخيانة. ما هي؟ والماضي؟ والذكريات؟ أسمع ضحكاتك البريئة يا "هيلانة" يوم أن انحنينا معا نجمع محصول القطن في شهر توت. هل كنت تخادعين؟ وأتوقف أمام النيل. يجري هادئا. هدوء "هيلانة" قبل الفيضان.
وقف مع "هيلانة" في المكان ذاته يوما ما. في الربيع ربما. عاهدها على الوفاء وعاهدته على الإخلاص. والدين؟
- أنا مسلم يا "هيلانة".
نحيا في قرية "أولاد إبراهيم" بين دير درنكة والنيل.
قالت "هيلانة":
- كلنا أولاد إبراهيم يا "علي". كلنا نعبد الله.
ترتسم صورتها على صفحة الماء. العقل والحكمة كنزان عزيزان فما بالك حين تتحلى بهما إمرأة؟ نعم كلنا أولاد إبراهيم إنما تفرقت بإسحاق وإسماعيل السبل.
الدير. هنا حلت العائلة المقدسة بعد رحلة شاقة من فلسطين. أتصبب عرقا. أطرق الباب الخشبي الكبير بوهن. أنتفض من الخوف وأتلفت حولي في كل لحظة. يفتح أبونا الباب وينظر إليّ باستغراب.
- أنا "هيلانة" يا أبونا. ألا تتذكرني؟ جئتك البارحة مع "شنودة" لكي تباركنا.
يسمح لي بالدخول. تتساقط دموعي. كيف أقول؟
- والحق أقول لك. رآني "علي" الليلة الماضية وأنا بالغيط مع "شنودة". كنا نتحدث. لا. لا. لم نخطئ يا أبونا.
- من "علي"؟
- عامل أجريّ مثلي يتعيش من العمل بالأرض. هو يحبني. لكني. نعم أحببته بعض الوقت. لكني انصرفت عنه بعد أن هداني المسيح. لكنه يطاردني.
الخطيئة نتاج جهل البشر. ولذة الخطيئة تلهي النفوس عن ألم الفضيلة. وهل أصدق هذه الفتاة البسيطة؟ ملامحها هادئة توحي بالصدق. مسكينة.
قلت لها:
- لا تخافي.
قالت:
- انصرف "علي" بعد أن رآنا دون أن يبادلني كلمة واحدة. وأخاف أن يتعرض لي بسوء.
قلت لها:
- سنحميك. هذا الدير حمى السيدة العذراء والسيد المسيح من جحافل الروم.
ويستكمل "علي" المسير. العمر الذي كان يمضي بلا معنى حتى رأيتك يا "هيلانة". أرى كلاب شيخ البلد يقتحمون داري في "شندويل". يسوقونني قسرا إلى حفر ترعة بالسخرة في "جرجا" بأمر الباشا. يتكالبون عليّ بكثرتهم. وأرى عشرات الشبان مثلي. يجمعوننا كالخراف. وأراني أغافل الكلاب وأسلم ساقيّ للرياح. وتأخذني قدماي إلى قرية "أولاد إبراهيم". هنا لا أحد يعرفني. هنا أبدأ حياة جديدة. ليست أفضل لكنها جديدة. أجد عملا في أراضي عهدة مدير أسيوط. العمل موسمي كالفيضان والبذر والحصاد. والأمل موسمي لا يكاد يظهر حتى ينعدم. والألم باق ما بقي الجسد. و"الُمتسحبون" الهاربون من السخرة والتجنيد والضرائب تتعقبهم رجالات الباشا في كل مكان فلا يملكون رفاهية الألم ولا ترف اليأس. لكن لا تستعبدهم السعادة فيبقون أحرارا من تلك الجهة على الأقل حتى وإن لم يدركوا كنه الحرية. فالمستقبل مظلم. وما إن يشرق ذلك الإيمان في قلبك حتى تتحرر نفسك من عبودية الأمل وسخافة المرتجى وسذاجة المسعى. لكن ظهورك يا "هيلانة" استعبدني. أشعل الأمل في صدري فرجوت أن أشعر بالألم والسعادة مجددا بعد طول عهد باللامبالاة.
ويلقي "شنودة" رأسه على الوسادة. وجه "هيلانة" الملائكي لا يفارق خياله. ووجه "علي" الشيطاني يفسد اللحظة واللوحة والجمال. والعمر يطير يا "شنودة". أعوام عمرك الثلاثون التي انقضت فجأة كما بدأت فجأة. والشعيرات البيضاء تهاجم رأسك كصياد متمرس بالمراوغة لا يواجه فريسته وإنما يستنزفها ببطء. وخوفك الغريزي حين رآكما "علي" يعكس طفلا لا يزال حيا بداخلك. تتألم الآن لأنك جبنت. وجلد الذات لا يمنع ألم الضمير لكنه يحوله إلى شيء من اللذة بفعل هو إلى المعجزة أقرب. ولا يستطيع النوم فيستيقظ مع أول ضوء للنهار ليذهب إلى ورشته. يدفن همومه بين المسامير والأخشاب ويرتسم وجه "علي" في مخيلته على لوح الخشب فينهال عليه بشاكوشه وكأنه يقضي عليه قضاء مبرما. وورشة النجارة على أطراف "أولاد إبراهيم" التي ورثها عن أبيه لا تتغير مع النيل كعمل الُأجرية.
- هل استرحت؟
تمتم أبونا بالعبارة بعد أن طلب حضوري من حجرتي.
- لا يا أبونا. القلق يقتلني. "علي" متهور وقد يفعل أي شيء.
- وكيف أحببته يا ابنتي؟
- اغفر لي يا أبونا.
- لست من يعفو.
وبعد لحظات من الصمت قال:
- ألا تفكرين في الترهبن يا ابنتي لكي تتطهرين من تلك الشرور؟
- لكني أحب "شنودة" يا أبونا.
- والمسيح؟ ألا تحبين المسيح؟
والفؤاد وما يعشق يا هيلانة. وأبي وأمي أين هما؟ والعمل منذ نعومة الأظفار في جني القطن وبغير ذلك الدخل لما سمحت لك عمتك بالعيش معها وأولادها بالبيت. و"علي". نورت يا قطن النيل. وينقذني "علي" من كماشة ابن عمتي. والعذراء. بركاتك يا عذراء. ظهوراتها التي هدتني للمسيح بعد أن تاهت بي الخطى. نور العذراء فوق درنكة. ونور المسيح يشرق بالقلب المظلم. و"شنودة". الحلم الذي لم يمت بعد.
أياد تطرق باب الدير. أنتفض رعبا فيشير لي أبونا بالعودة إلى حجرتي وعدم الخروج منها إلا بإذنه. وأسرع أنا إلى الباب بعد أن اختفت هيلانة عن الأنظار. إنهم رجال الباشا. يدفعونني دفعا كالكلاب المسعورة.
- أمر من مولانا صاحب النعم محمد علي باشا بإحصاء كل نفس في ناحية درنكة.
- لكن ليس لدينا شبان في الدير للعمليات أو الجهادية. ومعي تذكرة الجزية عن سنة ١٢٦٣.
ولم يرد "شلبي" جهادي وخفير الناحية بل دلف إلى الدير وهو يقول:
- تعد قائمة بالأسماء تسلمها لشيخ البلد أو المأمور. نريد معرفة كل شيء. الاسم. السن. الصنعة. الطائفة. كل شيء.
ثم بابتسامة خبيثة:
- وإذا تلاعبت يا "صاروفيم" أو أخفيت كائنا من كان سيكون العقاب عسيرا. لا أريد حكاية الوغد الهارب من الجزية الذي أخفيته لديك العام الماضي كواحد من الرهبان تتكرر. نحن نعرف الرهبان عن ظهر قلب فلا داع للألاعيب. حضرة مأمور المركز سيمر بنفسه مع اثنين من الكتبة للتأكد من إحصائك. العقاب شديد يا "صاروفيم". على الكل.
"شلبي" ابن قرية "أولاد إبراهيم". أراه وهو ابن سبع سنين وقد أتتني أمه ذات يوم لأباركهما وقت ظهور السيدة العذراء. وأراه وقد أتاني العام الماضي ليوبخني بعد أن دخل الجهادية وصار من خفراء المركز. ونورك يا عذراء ينتقي ولا يدخل القلوب المظلمة. وكيف ترى العيون الحقيقة ثم تعمى عنها القلوب؟ حكمتك يا إلهي أعيت قلوب الحائرين.
- ترهبنت يا "شنودة". انساها يا بني. لقد اختارت المسيح.
وليس هنالك من باب أمل يا "شنودة" إلا ويغلقه المصير. ادفن همومك في أرض الخمول. في العمل. في السراب. في العشق المستحيل. وهل للحياة معنى بعد ضياعك يا "هيلانة"؟ وإخوتك الذين كبروا بعد ما توليت أمرهم لن يذكروك إلا لماما. فالإنسان يذكر الإساءة ويغفل الإحسان. هل ستجني ثمار تعبك يوما ما؟ في جوار الرب ربما. لكن في دنيا الإنسان لا أظن.
وفيم يجدي البكاء؟ وما الرهبنة؟ وليس عليك يا "هيلانة" سوى الرضوخ لأمر أبونا. وهل تمردتِ يوما؟ وأنتقل إلى البيعة الكائنة بالدير. وفيم الخطيئة؟ "شنودة" من أتباع المسيح. الخطيئة هنا. في عقلي الذي لا يكف عن التفكير. وتبدأ صلاة الساعة السادسة. وأرى المسيح والعذراء. وأرى "شنودة" شاهرا سيفه وضاربا عنق إبليس وكأنه سيدنا الملاك "ميخائيل". وأراه يحتضنني ويهرب بي فوق جواده لسابع سماء حيث لا بشر ولا خطيئة. وأعدو تحت جناح الليل. أفتح باب الدير وأعدو. ولا أنظر خلفي فالماضي مثخن بألف جرح وألف مأساة ومأساة. لا تندمي يا "هيلانة" فالرب أعلم بما بك.
- هل تخيلتِ أنني لن أستطيع الوصول إليك أيتها الساقطة؟
- "علي"؟!!
- عرفت أنك ستذهبين إلى الدير بلا شك فراقبتك من مكان قريب وها أنت ذي أمامي. لم تطل سكناك بالدير. فأنت لا تحبين الطهارة.
وتغمد سكينتك في قلبها يا "علي". بلا كثير شرح أو تأنيب. تغسل بدمائها شرفك وكبرياءك. وتتمنى لو تقتلها ألف مرة. القتل لذة وشرف فيها الكثير من الألم للقاتل والمقتول. وهل هناك مقتول أشرف من سيدنا علي أو سيدنا الحسين؟ وكرب وبلاء يا "هيلانة". وتترك جسدها المقتول وتهرب عائدا إلى "أولاد إبراهيم". دموعك المنفلتة لا تكف عن التساقط. وقلبك ينفطر وعقلك يطير. "هيلانة" تموت؟ بئس المصير.
- تذكرة سفرك يا ولد.
ولم يرد "علي" فليس ثمة شيء يقوله.
- أنت من أين؟
- من هنا. من "أولاد إبراهيم".
- وما هذا الدم بيدك؟ ومن أين جئت الآن؟ ولماذا تعدو؟ ألا تعلم أن الباشا أمر بأن كل مسافر من ناحية إلى أخرى عليه أن يحمل تذكرة من الميري؟
صفعة مدوية على وجه "علي" تكاد تطرحه أرضا من شدتها. يهم "علي" بضربه فيزمجر باقي الخفر في علامة على التوثب والترقب. قال الخفير بكثير من الشك:
- سنتحرى أمره من شيخ البلد. خذوه.
ويستسلم للأيادي الكثيرة وللشتائم والصفعات والركلات. فليس معنى للمقاومة ولا للرجولة ولا للكرامة. وليس معنى للألم.
*****
محمد صالح
تولوز من ٢٢ أكتوبر إلى ٩ نوفمبر ٢٠١٣
This comment has been removed by a blog administrator.
ReplyDeleteThis comment has been removed by a blog administrator.
ReplyDelete