لست أعلم السبب وراء قراري المفاجئ بالكتابة عن يوسف كرم. ربما هو إحساس بضرورة العرفان بفضل الرجل في تكوين تفكيري منذ الصغر وإحساس بالمرارة لأن الرجل لم يأخذ أبدا حقه من الشهرة التي أعطت بلا حساب لمفكرين مصريين آخرين أقل ما يقال عنهم أنهم أقزام بالمقارنة بهذا الرجل. كبداية فشلت فشلا ذريعا في الحصول على أية صورة فوتوغرافية للرجل على الانترنت فاكتفيت بوضع صورة غلاف واحد من أشهر كتبه "تاريخ الفلسفة الحديثة". ولعل هذا يغني عن الصورة والشخص فما يبقى من الإنسان هو الفكر والأثر.
هو مفكر مصري ولد في طنطا في ١٨٨٦ وتوفي في ١٩٥٩ بعد حياة حافلة بالفكر والبحث الفلسفي أنتج فيها العديد من المؤلفات التي تعد أول ما ألف بالعربية في الفلسفة وتاريخها. لقد أنتج يوسف كرم موسوعة فلسفية ضخمة تتناول تاريخ الفلسفة في ثلاثة أجزاء: تاريخ الفلسفة اليونانية وتاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط وتاريخ الفلسفة الحديثة فضلا عن العديد من الكتب الأخرى التي تبين توجهاته الفلسفية أهمها العقل والوجود. ويوسف كرم هو بلا شك أقدم أساتذة الفلسفة المصريين.
سأحاول في السطور التالية أن أذكر جوانب ذاتية تأثرت فيها بفكره. قصتي مع يوسف كرم بدأت في عام ١٩٩٤ حين قررت في الصيف التالي للصف الأول الإعدادي أن أبدأ في قراءة الفلسفة. كانت بالنسبة لي كلمة فلسفة كلمة مبهمة غامضة تجتذبني وتشحذ خيالي. فهي مليئة بالأسرار وربما بالخطايا. حدث هذا في فترة تحول في حياتي قررت فيها أن أسأل وألا أكتفي بالإجابات المحفوظة المكررة حول الدين وحول الله وحول الإنسان. أخذت أبحث في مكتبة أبي عن كتاب يصلح كبداية للدخول في عالم الفلسفة. سألت أبي عن التطور التاريخي فأجاب "لابد أن تبدأ بالفكر اليوناني فاليونان هم من صنع الفلسفة!" فتشت بين الكتب حتى وجدت كتاب تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم ومنذ ذلك الوقت قضيت وقتا من المعاناة الفكرية وصلت بعد حين إلى لذة عقلية.
الكتاب صعب. هذا أهم انطباع خرجت به. كنت أقضي الساعات حتى أفهم صفحة واحدة مما هو مكتوب. لست أدري هل سيبدو لي مختلفا الآن بعد كل هذه السنوات. أسلوب الكتاب دقيق للغاية ومركز. نعم. التركيز الشديد هو أهم ما يميز أسلوب يوسف كرم. لا توجد عبارة زائدة. كل كلمة في موضعها وتخدم غرضا معينا. لا توجد كلمة أو عبارة ترفية أو تكرارية. أيضا لا توجد تشبيهات أو استعارات أو أي شيء من هذا القبيل. الكتاب فلسفي دقيق والفلسفة ليست أدبا جماليا إنما لها لغتها الدقيقة المحددة.
من خلال الكتاب تعرفت على الفلسفة اليونانية. عرفتها صعبة دقيقة ثم أحببتها حين اعتدت أسلوب يوسف كرم. عرفت الفلسفة قبل السقراطية. قضيت أياما وشهورا أحاول فك طلاسم الفلسفة الفيثاغورية والأيونية. ثم عرفت أفلاطون وأرسطو ثم الفلاسفة اللاحقين أمثال الرواقية والأبيقورية وفيلون اليهودي وأوريجانوس وأفلوطين والغنوسيين. ما زلت أذكر كم كنت أحس بالإجهاد بعد قراءة الكتاب لكني أصررت على استكماله. وفي أعقاب ذلك الاحتفال الخاص جدا الذي قمت به عندما انتهيت من الكتاب قررت أن أقرأ الجزء الثاني من الموسوعة. ولكن للأسف الفلسفة الوسيطة في أوروبا لم يكن متاحا في مكتبة أبي. بحثت عنه في كل مكان في الإسكندرية لكني لم أعثر عليه. عرفت اليوم فقط السبب وراء ذلك وهو أن الكتاب قامت بنشره دار نشر في بيروت وبالتالي لم يكن متاحا للبيع في مصر أما الكتابان الآخران فكانا من نشر دار المعارف المصرية وبالتالي كان من السهل الحصول عليهما من فروع المكتبة بمصر.
أيا كان الأمر اضطررت لقراءة الكتاب الثالث دون الثاني على مضض. كنت وقتها في الصف الأول الثانوي تقريبا. كنت اعتدت على أسلوب يوسف كرم الصارم في الكتابة. أحببت الكتاب جدا وتعلمت منه الكثير. ولكن بغض النظر عن الاستفادة من مضمون الكتاب حول هذه المدرسة الفلسفية أو تلك تعلمت ما هو أهم في رأيي وهو طريقة كتابة وطريقة تفكير. بداية يوسف كرم كان مؤرخا إيجابيا في الموسوعة بمعنى أنه لم يكن يكتفي بشرح فلسفة الفيلسوف وإنما كان ينتقد ويحلل ويعرض رأيه بعد الشرح الموضوعي اللازم للفيلسوف. أذكر كيف انتقد الفلسفة الحديثة بشدة. كيف كان يرى أن فرنسيس بيكون بمنهجه الاستقرائي لم يأت بجديد فوق ما قال به أرسطو وأن النهضة الأوربية تجنت على المنطق الأرسطي ووسمته بما ليس فيه. أذكر آراءه في الصراع بين التجريبيين والعقليين في القرن الثامن عشر وكيف رأى أن إيمانويل كانط هو الوحيد العملاق في الفلسفة الحديثة. ثم أذكر كيف كان فلاسفة القرن التاسع عشر كجون استيوارت مل وجيريمي بنتام مجرد حلقة في الفلسفة الخلقية النفعية التي بدأت منذ الأبيقورية في القرن الثالث قبل الميلاد وكيف رأى فيخته وشيلينج وهيجل وشوبنهور على أنهم كانطيين صغار. ثم كان حادا في نقد الوجودية في القرن العشرين ورأى أن كتابات سارتر هي أدبية وليست فلسفية. ما أريد أن أقوله أن الرجل كان ينتقد فلاسفة أوروبا العمالقة. فلاسفة عصر النهضة والتنوير والتحديث. ينتقدهم ليس بطريقة "نحن أفضل ولدينا ابن رشد وابن سينا" وإنما عن علم بعد أن تعلم طرائق الفلسفة وأتقنها فأصبح يتكلم نفس اللغة وينتقد من موقع الندية وليس من موقع التبعية والجهالة. كان يوسف كرم مؤمنا لكنه كان أمينا في شرح فكر الفلاسفة الملحدين وبيان قوتهم الفكرية. كان يدافع عن الإيمان الكاثوليكي ولكنه كان حريصا أن يقول ذلك بعد النقد الموضوعي للفيلسوف. ومن هنا تعلمت كيفية النقد والشك حتى لو اختلفت مع كرم في أغلب إن لم يكن كل أطروحاته لكني تعلمت أن هذا الاختلاف صحي ومطلوب وألا أقترب من أية كاتب أيا كان اسمه أو أهميته مطأطأ الرأس مستعدا لقبول أفكاره بلا حساب بل بعقل نقدي موضوعي.
أيضا تعلمت الدقة وعدم اللغو عند الكلام عن الفلسفة أو العلم فهذه ليست آدابا ترويحية جمالية لكنها معارف منضبطة لابد أن يكون لها لغتها وإلا نكون غير جادين في البحث.
يوسف كرم مات في ١٩٥٩ وقليل من المصريين يعرفونه اليوم. لكن كثير يعرف مصطفى محمود وأنيس منصور وغيرهما من الأقزام الذين يكتبون كتبا للاستهلاك العام وليس للبحث الفلسفي الجاد. ما أحوجنا اليوم لإحياء فكر أو طريقة فكر يوسف كرم بدلا من الانبهار بالمهرجين!!!!!