هل تعرف؟!
"قصة قصيرة"
"استرخِ تماماً.. استرح"..
تمتم الطبيب النفسي بهذه الكلمات بطريقة روتينية تنم عن طول اعتياده ترديدها لكل مريض يزور عيادته.. واستجاب x فوراً فألقي جسده المتعب على المقعد الوثير المقابل لمقعد الطبيب، لكنه، وقبل أن يمس جسده المقعد، انتفض واقفاً مرة أخرى ووجهه تبدو عليه إمارات الهلع والذعر، فما كان من الطبيب إلا أن ابتسم ابتسامة واسعة تخفي وراءها سخرية كامنة، وقال في عطف ظاهر:
- - ماذا هنالك؟
مرت لحظات و x يرتعش في خوف واضح قبل أن يتمالك أعصابه ويقول:
- - ألم تر هذا العقرب سيدي؟.. لقد مر بسرعة فوق المقعد و.. حمداُ لله.. لقد نجوت بأعجوبة..
ضحك الطبيب ضحكة قصيرة ثم قال:
- - لم يكن ثمة عقرب أو حتى ذبابة.. إن لديك حالة من "الأوهام".. عموماً.. إنها لا تستعصي على العلاج.. كل ما أطلبه منك أن تنفذ ما سأقوله لك بالحرف الواحد..
وقف x مدهوشا للحظات.. من المستحيل أن يكون ما رآه وهماً.. ولكن هيهات.. أليست تلك الأوهام اللعينة هي السبب في مجيئه إلى هنا؟.. أليست تلك الأوهام العصبية هي منغص حياته منذ مولده؟.. فليكن العقرب وهماً إذن!!..
"هيا استرخِ تماماً"..
حاول جاهداً أن ينفض عن ذاكرته مشهد العقرب حتى يتسنى له شيء من الاسترخاء، وأخذ يتلفت حوله بعينيه في شك وهو يحشر بدنه حشراً داخل المقعد الوثير، ثم ركز عينيه على الطبيب والأخير يقول بلهجة آمرة:
- - أريدك أن تهدأ تماماً.. تركز أفكارك.. اغمض عينيك.. حاول أن تتذكر كيف تطورت معك تلك "الأوهام العصبية"؟..
اغمض عينيك!.. ركز أفكارك!.. تذكر!.. نعم أتذكر فقد عمدت قبل حضوري إلى هنا إلى تذكر كل شيء ومراجعته جيداً حتى لا أجلس أمام الطبيب كالطالب الفاشل..
- - منذ مولدي وأنا أعاني من تلك الأوهام.. لقد..
قاطعه الطبيب ضاحكاً وهو يقول:
- - وكيف عرفت ذلك؟.. أنت تقول "عند مولدك"..
بدا على x الضجر من سذاجة السؤال وأجاب بلهجة تنم عن نفاد صبره:
- - عرفت ذلك من والديّ بالطبع.. يقولان أنى كنت أتلفت حولي كثيراً بغير سبب وأحيانا أفزع وأخاف وأخرى أضحك وأهتز من شدة الفرح دون داع كما..
قاطعه الطبيب مرة أخرى وهو يقول بحدة:
- - وهل هذه هي المعرفة يا أبله؟.. ربما كان والداك كاذبين.. ربما لم يحدث شيء من هذا إطلاقا, وربما كانا توهما ذلك عند ظهور أعراض المرض عليك بعد ذلك كمحاولة للوصول إلى جذور المرض وأسبابه.. وربما.. وربما..
بدا على x الضيق الشديد.. كان دائماً يشعر بالضيق عند تعرضه للإهانة.. لكنه حاول أن يخفي ضيقه وعاد ليقول في هدوء:
- - أنت على حق سيدي.. لكني للأسف لا أملك مصدراً آخر للمعرفة.. فالأوهام اللعينة عطلت عمل الحواس والعقل وأفقدتني الثقة في كل ما أعرفه..
هز الطبيب رأسه كعلامة على تفهمه للموقف ثم قال:
- - نعم.. نعم.. إذن باستطاعتك أن تسرد لي تطورات المرض كما تحس أنت.. كما ترى أنت.. كما تتصور أنت.. أنت.. لا من حولك..
بدا على x خيبة الأمل وهو يقول:
- - وهل ذلك سيفيد؟.. إنني سأشرح لك الحقيقة المزيفة.. أما الواقع فلن أحمل لك منه سوى صورة مشوهة مائعة فيها الكثير والكثير من الذاتية.. وأنت يا سيدي بالضرورة تبحث عن الحقيقة الموضوعية للمرض.. لا حقيقته الذاتية..
أجاب الطبيب في سأم:
- - بل أنا في حاجة إلى كليهما.. عموماً.. تكلم بحرية.. لن أقاطعك.. قل كل ما يدور في ذهنك.. سواء كان نابعاً منك أو ممن حولك.. تكلم..
كان يردد الكلمة الأخيرة وهو يعد جهاز التسجيل الموضوع على مكتبه فانتظرت قليلاً حتى فرغ من ذلك وبدأت أتكلم..
أنا خائف.. الكل من حولي قد لاحظوا مرضي.. إنهم يقولون إنني أتوهم أشياء وأشخاصاً وأحداثاً لا وجود لها.. والدي قال لي ذات مرة "إنك لن تعرف الحقيقة أبدا لأنك ولدت محملاً بالأوهام، تماماً مثل من ولد أعمى فإنه أبدا لن يعرف الألوان".. والدتي كانت دائماً تنظر إلىّ بشفقة.. لقد فقدت الثقة بنفسي تماماً.. أنا حتى أكاد لا أكون متأكداً ما إذا كانت والدتي قد ماتت في ذلك اليوم المشئوم.. يوم أن سقطت بين ذراعي.. أم أنها لا تزال حية.. ربما كانت حية.. وأنا لا أراها.. ما الذي يمنع من حدوث ذلك؟..ألست أنا "أبا الأوهام" كما أطلقوا عليّ؟!.. أحيانا أتساءل: كيف تبدو الحياة لأولئك الأصحاء؟.. هؤلاء الذين لا يعانون من الأوهام.. هل تبدو لهم أكثر وردية وإشراقاً؟. هل تبدو لهم أكثر معقولية؟.. هل أنا مجنون؟.. الغريب أن الأوهام لديّ انتشرت في كل حواسي فلم تسلم منها حاسة.. ذات مرة ظننت أن الوهم ناشئ عن الإبصار وقررت أن ألمس الأشياء لأتأكد من وجودها.. اللمس.. تلك الحاسة التي تشعرك بالوجود المادي الواقعي.. رأيت فأراً ضخماً يجري.. قررت أن ألمسه.. برغم كل التقزز الذي شعرت به، لكني أمسكت به بالفعل.. وإذا بمن حولي يقولون أنه كان وهماً.. كيف؟.. لقد رأته عيناي وأمسكته يداي.. هل يكذبون؟.. ولماذا يكذبون؟..
تساقطت الدموع من عينيه من فرط الانفعال، فبدا التأثر على وجه الطبيب، ولكنه سرعان ما قال بلهجة الخبير:
- - هناك حد فاصل بين الوهم والحقيقة.. بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي.. بين ما تشعر به وما يوجد في الواقع بالفعل.. فعلى سبيل المثال إذا توهمت مثلاً وجود ذئب فإن هذا يعد وهماً ذاتياً لكنه إن تعدى مرحلة الوجود بالقوة إلى مرحلة الوجود بالفعل كأن قام مثلاً بعض يدك، فالأمر هنا سيكون حقيقة موضوعية.. على الأقل الدم الذي سيسيل من يدك هو حقيقة موضوعية حتى وإن توهمت أسبابا مختلقة له..
هز x رأسه في يأس وهو يقول:
- - سيدي.. لقد رأيت في ذات مرة سكيناً وقررت أن أجرح نفسي لأتأكد من وجوده، فسال الدم بالفعل من يدي وشعرت بالألم، لكني لم أر انفعالاً في وجوه من حولي.. لقد كان وهماً هو الآخر.. وللآن ما زال أثر الجرح بادياً لي وحدي دون غيري من الناس..
ثم أجهش في البكاء وهو يقول:
- - أنا لست أدري إن كان وجودي نفسه حقيقة أم وهماً؟.. وجودي معك الآن.. هل هو حقيقة؟.. فما بالك بحقائق الوجود الكبرى كالله والجنة والنار؟.. لقد قرأت ذات مرة عن أوهام بيكون.. لكنني في الحقيقة لم أستطع الاعتماد على منهجه.. حتى ديكارت.. هيوم.. هل الحقيقة هي ما أتصوره؟!.. لست أدري..كما أنني..
توقف فجأة عن الكلام.. إنه يري ذئباً.. يا له من وحش كاسر!!.. كيف تسنى له الدخول إلى هنا؟.. هيهات.. إنه وهم جديد.. لكني خائف!!..
"ماذا هنالك؟" تمتم الطبيب بهذه الكلمة في قلق وهو ينظر إلى عيني x الزائغتين، لكن x كان مشغولاً بمشهد آخر.. الذئب ينوي الانقضاض على الطبيب.. هل أنبهه؟.. لكنه سيسخر مني.. وهو على حق..
دوت صرخة هائلة من فم الطبيب إثر انقضاض الذئب عليه، واندفع الدم كالفيضان من عنقه.. وما هي سوى لحظات حتى اندفعت الممرضة إلى الحجرة لترى ماذا يجري؟؟... لقد هوت على الأرض فاقدة الوعي من بشاعة المنظر..
أسمع أصوات الناس في الشارع يتحدثون عن هروب ذئب من حديقة الحيوان.. أما من منقذ؟.. ولكن هيهات.. اهدأ.. لا تحاول الهروب!!.. إنه مجرد وهم.. ربما لن تفيق منه أبدا.. لكنه وهم..
الذئب يقترب مني ودم الطبيب يسيل من فمه.. لن أحرك ساكناً.. يقترب!!.. يا للفزع!! لقد انقض عليّ!! ألم رهيب.. رهيب.. رهيب.. هل سأموت؟.. هل سأموت حقاً أم أنه وهم؟.. أشعر بأنفاسي تختنق.. تتحشرج.. أفقد الوعي بما حولي.. أفقد القدرة على تحريك أعضائي.. أهوي إلى الأرض.. تخفت مشاعري.. رويداً.. رويداً.. رويداً.. جهاز التسجيل يردد "إنك لن تعرف الحقيقة أبدا لأنك ولدت محملاً بالأوهام، تماماً مثل من ولد أعمي فإنه أبداً لن يعرف الألوان".. وداعاً!!..