Saturday, August 14, 2010

شيطان المساء

شيطان المساء

"قصة قصيرة”



دقت أجراس الدير، يخترق رنينها جدار السكون, معلنة حلول موعد صلاة المساء، فأسرعت خطاي مهرولة حتى أتخذ موقعي بين الراهبات. وبدأنا الإنشاد على أنغام القيثارة الحزينة.. أناشيد.. طقوس.. ابتهالات.. أشعر بمشاعر شتى.. أشعر بالخوف من مقدم الرهبان.. هل سيحدجني بذات النظرة الصارمة التي تؤلمني بل تصيبني بالفزع؟.. يا لها من حياة!.. ماذا سأفعل بعد الصلاة؟.. هل سأخلد إلى النوم أخيراً بعد هذا اليوم الشاق؟.. يا ترى كيف تكون الراحة؟.. يا ترى كيف يكون التعب؟..

وتجمعت داخلي مشاعر الراحة والرجاء والتعب والخوف والألم كلها في آن.. وأخذ فمي يردد تلك الأناشيد الكهنوتية المحفوظة بطريقة ميكانيكية آلية، لولاها لما احتفظت بموقعي بين الراهبات.. أنا لم أزل صغيرة.. لكني لا أعرف كم أبلغ من العمر.. ربما سبعة عشر عاماً وربما أكثر أو حتى أقل.. لكنني صغيرة.. شيء ما بداخلي يؤكد لي ذلك.. أصر والدي على إلحاقي بهذا الدير.. لم أعترض.. كل شيء سواء..

ها قد انتهينا من الصلاة.. أسرعت الخطى نحو باب القاعة، يحدوني الأمل في الراحة.. حجرتي الحبيبة.. خلعت الثوب الأسود ونظرت إلى المرآة.. هل ذلك الكائن الممتعض هو "أنا"؟.. شحوب.. اصفرار.. ضعف.. ذبول.. لا يهم.. المهم أنني سأرتاح.. تماما.. نفضت الغبار من على وجهي.. لم أعد كما كنت في الماضي.. لكني لا أذكر كيف كنت..

وفجأة.. سمعت صوتاً بالشرفة.. لم أخف.. فتحت باب الشرفة بهدوء فطالعني بوجهه الباسم يقول:

  • - عمت مساءاً..

لم أنبس ببنت شفة، ليس خوفاً وإنما ذهولاً، وأخذت أحدق في وجهه في صمت فقال ضاحكا:

  • - أقول عمت مساءاً.. ألا تسمعين؟

رددت بلا وعي كالمنوم تنويما مغناطيسيا:

  • - بلي، أسمعك..

قال ساخراً:

  • - فلتجيبي إذن أيتها الحمقاء!..

لقد أهانني.. علّمنا يسوع أن نسامح ونغفر.. أشعر أني أعرف ذلك الرجل.. منذ قرون سحيقة مضت.. قسمات وجهه.. شعره.. فمه.. قلت له متسائلة:

  • - هل تعرفني؟..

دخل الحجرة وأغلق باب الشرفة وراءه وهو يقول:

  • - أكثر مما تتصورين..
  • - كيف؟..
  • - لقد كنت أراقبك دوماً وها قد سنحت الفرصة أخيرا..

عبارة ذو وقع شاذ.. لا يهم!.. لكني استشعرت في عينيه شيئاً من الرغبة، وتذكرت فجأة أنني عارية لا أرتدي سوى ثوب شفاف، فأسرعت إلى الثوب الأسود الملقى على الأرض كما علمني الدين والمجتمع، وقبل أن تمتد إليه يدي المتأهبة، أمسك بيدي في شيء من العنف أو هكذا أحسّت يدي التي لم يلمسها رجل من قبل, وقال بحدة:

  • - لا تسيئي الفهم.. سيدتي.. أنا أعني أن الفرصة قد سنحت للحديث معك..

كيف يجرؤ على لمس يدي؟!.. حاولت جاهدة التملص من قبضته لكني فشلت فقلت له بشيء من الحدة حاولت أن تبدو واضحة في نبرات صوتي:

  • - فلتترك يدي.. دعني أرتدي ثوبي..

قال في حيرة:

  • - سيدتي.. أنا لم أحكم قبضتي على يدك بهذه القوة.. كنت تستطيعين التخلص من قبضتي بسهولة.. إن أردتِ..

نظرت إليه صامتة والتقطت يدي الثوب فارتديته على عجل.. كان ينظر إليّ بغير اهتمام.. بغير رغبة.. قلت له في صرامة:

  • - ماذا تريد مني أيها الزائر الغريب؟..

قال ببراءة:

  • - أنت التي في حاجة إلىّ.. سيدتي..

وقبل أن أتساءل أو حتى أندهش عاجلني بالحديث قائلاً:

  • - ماذا تفعلين في هذا الدير المعتم؟..

تعجبت من سذاجة السؤال, لكني سرعان ما أدركت السخرية الكامنة في حروفه، فتجاهلت هذا الإدراك وقلت:

  • - أنا راهبة.. أؤدي الصلوات.. أحيا في طهارة وعفاف بعيداً عن عالمكم الملئ بالشرور..

تساءل:

  • - ولمن تصلين؟.. ولم تفنين حياتك في هذا الهراء؟..

فاجأني سؤاله الوقح فقلت له بحدة:

  • - سيدي.. لا مجال لإلقاء الدعابات في هذا الحديث..
  • - لكني أتحدث بجدية.. أنا لست أفهم المبرر وراء ما تفعلين..
  • - من أجل الرب.. مخلصنا يسوع.. ألا تؤمن بالرب؟..

هز كتفيه بلا مبالاة وقال:

  • - لست أدري.. وهل إيماني بالرب سيغير شيئاً من الواقع؟..

حقاً.. لست أدري.. لقد فطرت على الإيمان بالرب.. الآب.. الابن.. الروح القدس.. لا أستطيع أن أتصور نفسي ملحدة.. إنها الفطرة!.. أو قل إنها الصدفة!.. الظروف.. إيمان مكتسب.. لست أدري.. كل شيء سواء.. لكني لا أستطيع أن أظهر هذه الحيرة أمامه فقلت له بهدوء وأنا أخفي ما عساه يبدي ما بداخلي:

  • - بالطبع!.. إيمانك بالرب سيشعرك بالغاية.. الاطمئنان.. السكينة..

هز كتفيه مرة أخرى قائلاً:

  • - وهل تضمنين لي حدوث ذلك؟..
  • - بالطبع!..
  • - إذن.. فلأؤمن بوجود الرب!!..

يا لها من عبارة.. اندهشت لهذه النتيجة السريعة، فلم أتصور أن أنتصر بهذه السرعة، ولم أتصور أن اتخاذ قرار مصيري كذلك يمكن أن يتم بهذه البساطة، فبادرت بإلقاء السؤال:

  • - وهل ذلك عن اقتناع كامل؟..

قال بهدوء:

  • - ربما.. لست أدري.. وماذا يعني الاقتناع؟.. ألا يكفي أن أقول لذاتي في كل لحظة أنني مؤمن بالرب؟.. أنا لن أحاسَب على ردود ذاتي.. يكفيني الإرادة أو الرغبة في الاقتناع.. أو فلنقل يكفي أن أؤدي ما يدل على إيماني بالرب.. أؤدي الصلوات.. أذهب إلى الكنيسة أيام الآحاد.. إنه شيء أكثر قابلية للاستدلال من ذلك الشعور النفسي المبهم..

وقبل أن أفكر في مغزى كلامه بادرني بالسؤال:

  • - وأنت لماذا تؤمنين بالرب؟..
  • - لا بد للكون من خالق.. وإلا فكيف أتت السماء و...؟

قاطعني في حدة قائلاً:

  • - كفاك هذا الحديث المحفوظ المتكرر.. ألا تستطيعين التفكير بعقلك أنت؟..

قلت في حدة قصدت أن تكون مماثلة لحدته:

  • - بالطبع أفكر.. أنا أؤمن بالرب أملا في الخلاص..
  • - إذن فأنت تعيشين حياة الرهبنة أملا في جزاء مادي.. الخلاص.. السعادة.. وخوفا من العذاب.. الإنسان لا يستطيع أن يفكر بوضوح في غير الماديات.. أما عدا ذلك فكلها أفكار مبهمة..

ثم سأل فجأة:

  • - ولماذا خلقنا الرب؟..
  • - لكي نعبده، ونؤمن به..
  • - إذن فنحن أشبه بالدمى.. يخلقنا ثم يسّيرنا ثم يميتنا ويحاسبنا على أفعالنا..

صحت في وجهه قائلة:

  • - تباً لك!.. إننا مخيرون بين مدينة الله ومدينة الشيطان...

ثم بجدية بالغة:

  • - ماذا تريد من هذه المناقشة؟..

قال ضاحكا:

  • - اعتبري أني أحد أفراد قبيلة وثنية تسكن في أدغال إفريقيا وأنك على رأس بعثة تبشيرية لهدايتي إلى الطريق القويم..

قلت له بصرامة:

  • - سيدي!!.. أنت لن تغير معتقداتي في لحظة.. أنت شخص ملحد جاهل أحمق.. أنا أؤمن بالرب.. وأؤمن بالخلاص.. وقد قال يسوع: إن مملكتي ليست من هذا العالم!..

قال مداعباً:

  • - سيدتي.. لو أن البعثات التبشيرية كانت تتعامل مع الوثنيين والملاحدة بذات أسلوبك لبقيت أوربا على وثنيتها..

ماذا يريد مني هذا الشيطان؟.. أنا خائفة!.. ارتعدت أوصالي فجأة.. رمقته بنظرة صارمة أو هكذا كنت أريدها.. قال لي بسخريته القاتلة:

  • - حسناً!.. دعينا من هذا الحديث الكئيب!!.. فلنتحدث في موضوع آخر..

قلت له بذات الصرامة:

  • - لا مجال للحديث بيننا سيدي!.. فلتخرج مثلما أتيت!..

قال بلا مبالاة:

  • - ألم تتحرك عاطفتك من قبل؟.. أو بعبارة أكثر دقة ألم تتحرك غريزتك الجنسية من قبل؟..

وقع عليّ السؤال كسيل مفاجئ.. صرخت قائلة:

  • - أنا راهبة.. سيدي!..
  • - وما شأن هذه بتلك؟.. الحب والرغبة غرائز طبيعية يحسها كل إنسان سواء كان فاسقاً أو راهباً.. والغريزة الجنسية هي الدافع وراء كثير من أفعالنا..

قلت له وأنا أسترجع خلاصة ما تعلمته:

  • - مهمتي سيدي أن أقتل الرغبة والغريزة!.. مهمتي أن أتطهر!.. أنصرف عن الخطيئة!..
  • - هذا الحديث قد ينخدع به المجتمع الأحمق، أما أنا فلا.. الطهارة والإنسان لا يجتمعان..


أنا مازلت صغيرة.. صغيرة.. المجتمع والعقيدة ورائي.. كلا.. أنا أريد.. أرغب.. لست أدري.. ماذا أفعل؟.. وبلا تفكير.. انمحت كل الحواجز في لحظة فاستيقظت بداخلي المرأة والرغبة.. أمسكت وجهه بعنف ثم انهلت عليه تقبيلاً.. تقبيلاً.. تقبيلاً.. جبهته.. عينيه.. فمه.. وجنتيه.. عنقه.. لأول مرة أحس بوجه رجل يلامس وجهي.. يا لها من لذة!.. ياله من شعور!.. يا ترى كيف تكون اللذة الجنسية؟.. أنا إنسانة.. راهبة.. كل شئ سواء..

لم يبد في وجهه شيء من التأثر.. كصنم أو حجر صامت.. ماذا فعلت؟.. أنا فاسقة.. خنت يسوع.. كلا.. لقد خنت المجتمع.. نظرت في المرآة.. يبدو عليّ الإجهاد.. التعب.. رغبات مكتومة مكبوتة كمارد يريد الانطلاق من عقاله.. تباً للمجتمع!.. سحقا للعقيدة!..

أخذت أضحك.. أضحك.. لكني لا أتحمل الخطيئة.. الهوان.. تأنيب الضمير.. أسرعت إلى سكين ملقى بجانب الفراش.. انهلت عليه طعناً.. طعناً...طعناً.. كمن يريد وأد كل شطحاته ورغباته..

نظرت إلى المرآة.. شعرت بآلام حادة في جسدي.. لم أجده في المرآة.. ولا في الحجرة.. ولا في أي مكان على أرض الواقع.. لم يكن موجودا سوى بداخلي.. لم أجد سوي الدم يسيل من صدري.. تباً للحياة!!.. تباً للموت!!..




1 comment:

  1. I can see that in this story and the other one before this, you are focusing on the mind dreams ( el awham ) the fake world, the world inside everyone of us.
    I was really touched by both stories as it reflects what is going on inside me sometimes or lets say most of the time, our actual materialistic life might be just a dream.
    Amazing creativity Mohamed !!!!

    ReplyDelete