Saturday, August 14, 2010

اليوم ماتت أمي

اليوم ماتت أمي..

"قصة قصيرة"


اليوم ماتت أمي..

استيقظت على صرخات أبي الرهيبة فوجدتها جثة هامدة فقدت الحياة.. كان الأمر أشبه بحلم مزعج.. كابوس مخيف.. لم أتمالك نفسي فبكيت..

ثم وجدتني أعدو مسرعا خارج المنزل..

نقطن بقرية صغيرة تبعد عن أقرب مبعوث للمدنية مسافة ليست بالقليلة، على الأقل لمن اعتاد السير على الأقدام مثلي.. لكن القرية هي العالم عندي.. بيتنا الصغير.. الحقل الأخضر.. البحيرة الزرقاء.. تماما مثلما لا تعرف النواة سوي الذرة التي تحملها..

لدي من العمر عشر سنوات..

أعدو حتى يصيبني الإجهاد.. أهرب من آلامي وأحلامي المزعجة.. حتى أصل إلى البحيرة.. وهناك.. كما توقعت.. وجدتها جالسة..

كانت سيدة عجوزا.. هكذا أدركها منذ رأيتها أول مرة.. تحمل داخل تجاعيدها خبرات آلاف السنين، وآلام ملايين البشر.. كانت دائما تجلس في ذات المكان، تحتل صخرة متهالكة أمام البحيرة الميتة، ترقب المياه في هدوء الإله، وكأنها ترانا، نحن كل الكائنات، ترانا من الخارج... من خارج الذرة.. كنت دائما أخشاها.. أخشى مجرد الاقتراب منها.. أطفال قريتنا يقولون أنها سفيرة الشيطان.. جاءت لتعبث بأقدارنا وبأحلامنا.. لكني في ذلك اليوم لم أجد سواها..

  • - "ماما" ماتت..

كانت الكلمات تخرج بصعوبة من فرط الدموع.. خرجت تحمل كل معاني المأساة البشرية.. لكنها خرجت غريبة عني، فلم يكن بالإمكان أن أتصور أنني صاحب المأساة هذه المرة.. خرجت وكأنها من خارج العالم.. لم يبد عليها أية دلالة على أنها قد سمعتني.. الوجه مازال شاخصا ببصره إلى بحيرة الآلام.. قبل أن أكرر العبارة سمعت صوتها الآتي من العالم الآخر يقول:

  • - هل أنت متأكد من ذلك؟

اندهشت من صوتها العميق.. أجبت:

  • - سيدتي.. إنها لا تتحرك.. انهم يعدون العدة لدفنها..

هزت رأسها بتفهم وكأنها الحكيم الذي يحمل في طياته كل معالم الطريق.. التفتت نحوي وقالت:

  • - فلتلقوا بجسدها في البحيرة حتى أراها كل يوم.. إن الموت هو المعني..

كانت تتحدث بلهجة من ينهي الحوار.. لكني كنت أريد المزيد.. كان غموضها يجذبني إليها.. قلت:

  • - لكني حزين.. أشعر بالانهيار.. بانعدام المعني...

قالت بغير اكتراث:

  • - لماذا؟..

فوجئت بالسؤال.. أما تشعر هذه العجوز الخرقاء بالفاجعة؟.. أجبت:

  • - لقد ماتت ماما.. ودعتني إلى الأبد.. لن أراها بعد ذلك لا في المنزل.. لا في الحقل الأخضر.. لا في البحيرة الزرقاء.. لن أسمع صوتها.. صارت مجرد ذكرى.. صورة وسط صور الراحلين من عائلتي.. أنا..

توقفت عن الكلام.. أوقفني البكاء والدموع المنهمرة.. كان جسدي الصغير ينتفض.. شعرت بيدها المتهالكة تربت على كتفي.. سمعتها تقول في إشفاق ربما احتجته فتصورته:

  • - لا عليك يا ولدي.. إنها الحياة بكل قسوتها ومرارتها.. فلتذهب لتراها كل يوم.. الموت مصنع العبر..

صرخت محتجا:

  • - لقد سئمت أحاديثكم أيها الكبار.. كرهت هذه النصائح الغالية والعظات القيمة.. فلتهبطي من عليائك سيدتي إلى ارضي المتواضعة.. لدي من العمر عشر سنوات..

قالت مبتسمة تلك الابتسامة المشفقة على جهلي التي أعرفها جيدا:

  • - حسنا يا عزيزي.. ماذا أقول لك؟.. ماما لم تمت.. هل يريحك ذلك الحديث؟..

قلت والدموع بعيوني:

  • - نعم.. هي لم تمت..

قالت:

  • - ألست مؤمنا؟
  • - بلي..
  • - إذن فهي حية.. الروح باقية.. الجسد مات.. لقد خرجت من الذرة إلى العالم الحقيقي.. من الفيزيقا إلى الميتافيزيقا.. ستلحق بها يوما ما حين يحل أجلك..
  • - فلأنتحر إذن.. أنا مشتاق لرؤيتها..
  • - لا.. إن كنت مؤمنا فلا تكسر النظام الإلهي.. افعل ما هو مرسوم لك فقط..
  • - وما معني محياي ومماتي إذن؟..
  • - هذا ما أحاول إدراكه في البحيرة منذ أدركني التاريخ..

ضربت بيدي الصخرة في غضب طفولي، كمن خاب أمله في المعرفة، قالت:

  • - لا تضرب الصخرة.. ربما كانت تشعر بالألم مثلك..
  • - لكنها لن تموت..
  • - كذلك أمك.. ألم تقل إنك مؤمنا؟..

قلت بنبرة تكسوها العصبية:

  • - اقصد أن أمي فقدت جسدها، أما الصخرة فجسدها باق يتحدى الزمان..

قالت بهدوء مستفز:

  • - ليس ثمة كائن يرضي عن مصيره.. إنسان يملك روحا وجسدا يفقد الجسد وتخلد الروح.. صخرة بجسد ولا روح.. أليس من حقها أن يخلد جسدها؟!.
  • - ومن يدرينا لعل لها روحا هي الأخرى؟..

عقدت حاجبيها في تفكير عميق ثم قالت:

  • - مسائل الميتافيزيقا لا يمكن حلها.. تأتي من خارج الذرة.. يستحيل على الغارق في بحر الهيولي التفكير فيها بوضوح.. الأفضل أن نحيا داخل حدودنا..

قلت باستنكار واضح:

  • - سيدتي.. كنت أظنك الوحيدة التي تحيا خارج حدودنا.. يالخيبة الأمل!..

قالت وكأنها لم تسمعني:

  • - نعم.. الحياة داخل الحدود افضل.. الموت هو المخرج..

ثم باهتمام مفاجئ:

  • - ألم ترقب البحيرة من قبل؟..

قلت:

  • - أحيانا.. كنت اخرج مع أبى للصيد.. كنت أراقبها بالساعات..
  • - ألم تلحظ شيئا؟..

قلت بحماس الأطفال:

  • - بلي.. كانت تثور وتتوعد حين أخطف سمكة من أسماكها.. أحيانا أشعر أن روحها خالدة.. كل الأشياء تملك أرواحا.. أظن روحها تدعي بوسيدون.. هكذا أخبرني أبى يوما، فهو مغرم بالأساطير..

عادت إلى وقارها لتقول:

  • - ما الحياة إلا أسطورة..

ثم بذات الحماس:

  • - لكن البحيرة في تغير دائم.. مياهها لا تهدأ.. لا تبقي عين ذاتها أكثر من لحظة في عمرها.. إن افترضت لها بوسيدون، أضفيت عليها المعني، وخرجت بعيدا عن الذرة.. أما إن تر سوي التغير، نفيت المعني عن الوجود..

قلت ببراءة:

  • - التغير.. نعم سيدتي.. ماما تغيرت كثيرا قبل موتها.. كانت أكثر هدوءا من أي وقت مضي.. وكأنها ترى آفاق المستقبل..
  • - وها هي قد تغيرت كثيرا الآن.. لقد فنيت..

ثم قالت بحماس بالغ:

  • - أتعرف ما المشكلة يا صغيري؟..

هززت كتفي حائرا فقالت:

  • - المنظور.. لقد فرض علينا بحكم تكويننا أن لا ندرك العالم سوى من منظور معين، لكننا امتلكنا كذلك القدرة على إدراك إننا محدودون..

صمتت لحظة ثم استكملت حديثها بذات الحماس:

  • - نحن نمنطق اللامعقول بآلاف المعاني الزائفة.. نكسو العالم بحلة زائفة براقة من المعاني التي تجعله فكرة قابلة للإدراك.. نكسوه بالعدد.. بالكلمات.. بالعلاقات المنطقية والرياضية.. بحواسنا التي لا ترى البحيرة من حيث هي ذرات وإنما من حيث هي مياه وأسماك وتغير وبوسيدون.. المشكلة يا صغيري هي المنظور..

بدت على علامات عدم الفهم فقالت في حنان أعاد أمي إلى الحياة:

  • - لا عليك يا ولدي.. فلتمنطق حياتك كما يحلو لك.. الحياة بدون المنطق لا تطاق..

سألتني في إشفاق:

  • - ماذا كانت ماما لديك؟..
  • - كانت المغزى.. سر الحياة.. فيض الحنان.. نهر الحب الذي لا ينضب..
  • - كنت ترى فيها ظل الإله؟..
  • - ربما.. لكنها ماتت وكذلك مات الإله..
  • - فلتكتف بصيد الأسماك يا عزيزي..

قالتها ورددتها مرارا.. ارتميت في حضنها العجوز.. انهمرت دموعي أنهارا.. نظرت إلى البحيرة فوجدتها قد تغيرت.. لم يبق منها سوي الاسم!!..


بعد ثلاثة شهور كاملة.. كنت قد نسيت أمي.. جرفتني الحياة في تيارها.. عدوت مسرعا خارج المنزل.. ذهبت إلى البحيرة فوجدتها جالسة على صخرتها المتهالكة.. بمجرد اقترابي منها سمعتها تقول:

  • - أهلا يا عزيزي.. أيام كثيرة مضت منذ التقينا.. كيف حالك اليوم؟!..

قلت والدموع تنهمر من عيوني:

  • - سيدتي.. أمي التي ماتت.. اكتشفت البارحة أنها ليست أمي..

التفتت نحوي باهتمام بالغ وقالت:

  • - كيف ذلك؟..
  • - عندما بدأنا في تقسيم الميراث فوجئت بأبي يقول "إنها لم تكن أمك".. وإذا بي أعرف أني ابن صياد مات غارقا بعد مولدي بعام واحد.. تركتني أمي الحقيقية ورحلت من قريتنا، ليتكفل بي أبى المزعوم وأمي الزائفة..

ابتسمت ابتسامة العالم ببواطن الأمور وقالت:

  • - هل ترى البحيرة يا عزيزي؟..

قلت من داخل أحزاني:

  • - نعم سيدتي.. أراها..
  • - اغمض عينيك.. هلي تراها الآن؟..
  • - لا..
  • - إذا قلت لك أن البحيرة غير موجودة الآن، وإنها قد زالت من قاموس الحياة.. هل تصدقني؟..
  • - لا. فأنا أسمع صوتها..
  • - سد أذنيك.. ما قولك الآن؟..
  • - لا أستطيع الحكم.. لابد أن أفتح عيني حتى أحكم على ما تقولين..
  • - صغيري.. لا عليك مما يقولون.. كن كما تريد أن تكون.. ولتكتف بصيد الأسماك يا عزيزي..

ثم بصوت هامس:

  • - هم أيضا لا يعرفون هل بقيت البحيرة أو زالت من الوجود..

رددت بلا وعي:

  • - غدا أخرج للصيد..


لا أعرف كم مضي من عمري بعدها.. كانت السنوات تمضي سريعة.. صيد الأسماك يشغلني.. أذكر أنى تزوجت وأنجبت.. كبر الأطفال وماتوا.. كنت أتحاشى الذهاب إلى البحيرة حتى لا أراها فربما كانت اليوم اشد إخافة للنفس عما مضي..

بعد عشرين عاما ذهبت إليها.. كانت جالسة على صخرتها المتهالكة.. سمعتها تقول بصوتها الآتي من العالم الآخر:

  • - أهلا يا صغيري.. جئت تودعني..

التفت إليّ بوجهها المخيف الذي آلمته التجاعيد.. نظرتها الغريبة الزائغة.. ترى فيها آلام الماضي السحيق.. لكنها اليوم فقدت كبرياءها وهدوءها.. كانت خائفة وكأنها ارتضت أخيرا بالدخول في الذرة.. قالت وهي تنظر إلى البحيرة:

  • - أنا على مشارف الموت يا عزيزي..
  • - لا سيدتي.. أنا احتاجك..
  • - إنها سنة الحياة يا صغيري.. كثيرا ما أطرق برأسي.. أشرد بعيدا في آلامنا.. أرى دماء الشهداء وأحلام الصغار والأبطال.. أظنني قد حل بي الموت.. ثم أفيق فأجد الصخرة والأسماك.. لكنني هذه المرة أشعر حقا بدنو الأجل..
  • - كيف سيدتي؟..
  • - أنفاسي تختنق.. لا أقدر على تحريك أطرافي.. إني....

توقفت عن حديثها من فرط الدموع فضممتها إلى قائلا:

  • - لا عليك يا صغيرتي.. لقد أديت ما عليك.. لقد أريتني الطريق..

قالت متهدجة:

  • - لكني خائفة.. عندما كنت صغيرة كنت أرى الموت بعيدا بعيدا.. كنت أقول عندما تصيبني الشيخوخة سأفكر في الموت.. لكني مازلت أخشاه تماما مثلما كنت طفلة..

كانت قد ارتاحت على صدري.. قلت لها في إشفاق:

  • - لا تخشي شيئا.. التغير هو المعني..

وجدت دموعي تفلت من عقالها.. حتى هذه العجوز تخشي الموت.. تلك التي ما إن تراها حتى تذكره في أبشع صوره.. كيف تخلت عن هدوئها وغموضها الخلاب؟..

بدا أنها قد ماتت حقا.. حركتها سكنت.. دموعها انقطعت.. صوتها العميق عاد من حيث أتي.. طبعت قبلة أخيرة على جبينها..

عندما أتى المشيعون، أشرت إلى جسدها المتهالك كي يلقوه في البحيرة قائلا:

  • - لقد ماتت..

وبدلا من أن تمتد أيديهم إليها وجدتهم يمسكون بجسدي الضعيف.. سمعتهم يقولون:”فليرحمه ربه إن شاء".. سمعت عبارات تشيد بمحاسني.. سمعت العظات القيمة.. سمعت أمي ترحب بقدومي.. البكاء.. الصراخ.. العويل.. ثم ألقوا بي في البحيرة..

ومنذ ذلك اليوم لم أعد قادرا على الذهاب إلى العجوز عند البحيرة وهي جالسة على صخرتها المتهالكة، لكني كنت أشعر بتأملاتها..


No comments:

Post a Comment