Thursday, August 12, 2010

قرار

قرار

قصة قصيرة

- تغيرت كثيرا يا سارة..

تمتم بهذه العبارة و هو يتأمل وجهها الشاحب. كانت سارة نائمة تعلو شفتيها، اللتين طالما أشبعهما تقبيلا في الزمن الماضى، ابتسامة خافتة أو هكذا تخيلها. كان يردد نظرات عينيه الزائغة بين صورة فوتوغرافية في يده و بين الأصل النائم أمامه.

- يا له من زمن لعين..

تأمل الصورة. فتاة فاتنة تنطق عيناها بشيء من الغرور و العبث. تأمل شعرها الأسود الداكن كما يبدو في الصورة و تأمله و قد فقد سواده و صار رمادياً هشاً. صدرت منه آهة. هل كان يتألم؟ و لكن ما الذى تغير؟ و متى؟ لقد كنا صغاراً. كنا نسعى جاهدين كى نكون معاً و نبقى معاً. تتبعنا الحاضر الذى لا يتوقف. لم نتنبه أن كل لحظة مرت لن تعود. لم ننتبه أن ما نسميه حاضرا هو مفهوم بلا محتوى. لقد تآكلنا. أين الماضي الآن؟ أين اللحظات و الأيام التى مرت؟ هى فقط أشباح تمر في شريط الذاكرة. لم ندرك أن الموت يأكلنا في كل لحظة تمر. يأكلنا رويدا رويدا حتى تأتي اللحظة الحاسمة، حين يصير كل وجودنا مجرد ماض بلا مستقبل.

* * *

- تغيرت كثيرا يا سارة..

قالها في سعادة بالغة و هو يجول بعينيه في أنحاء وجهها الباسم. كان قلبه ينتفض فرحا. ها هي سارة تظهر مرة أخرى فى حياته بعد كل تلك الأعوام. هل كان يتخيل أن يراها حتى في أفضل أحلامه؟ لقد جرفته الحياة فى تيارها بعيداً. حفظك الله يا سارة!

- يوسف.. هل هذا معقول؟ .. أنا لا أصدق ما أراه أمامى.

لم يرد. كان يدقق فى وجهها المشرق.

- و لكن أين كنت يا يوسف؟

- سافرت. أعوام كثيرة مضت. و لكن ها أنت ذى أمامى.

- لم أرك منذ تخرجنا. و لكن قل لى كيف تغيرت.

- صرت أكثر جاذبية!!

- آه..

تأمل وجهها الشاحب النائم و هى تتأوه من الألم. ليتنى كنت أنا المريض يا سارة..

* * *

"إنى ألف أهواه"

- هل تحبين نجاة يا سارة؟

- أعشق رقة صوتها. تحرك المشاعر الكامنة بداخلى.

- و أنا؟

قبلتها..

- أنت روحى.

* * *

- يوسف.. لست أدري.. أشعر أن النهاية اقتربت.. الألم يعتصرنى..

كانت قد فتحت عينيها أو لنقل واربتهما. ابتسم ابتسامة خفيفة. لم يدر ماذا يقول. كم يكره عجزه عن الكلام في مثل هذه المواقف. لابد أن يدقق. يفكر في أنسب العبارات و أكثرها وقعا على النفس. يهيم مع ذاته في تجارب من محض الخيال، يجرب في كل منها إحدى الإجابات، و في كل واحدة يقدر رد فعل المتلقي. في النهاية لم يقل شيئا.

* * *

"و أيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر و أنت أرحم الراحمين. فاستجبنا له"

رددها المقرئ في الصوان الكبير.

- ماتت أمي يا سارة.

- البقية في حياتك يا يوسف. شد حيلك.

لديها الرد المناسب على كل عباراتي و تساؤلاتي. هى أكثر بساطة مني بالتأكيد. عسى الله أن يكشف ما بك من ضر يا سارة.

* * *

تعالت تأوهاتها..

- سارة..

لم يملك أن يكمل عبارته من فرط الشهوة. صدره يعلو و يهبط.

تعالت تأوهاتها..

- يوسف.. أحبك..

لم يكن بارعا جنسيا. كان خجولا. كثيرا ما كان يشعر بأنها تجامله بادعاء النشوة كى لا تجرح مشاعره. أنا آسف يا سارة.

* * *

أمسك بيدها في حنان. كانت ترتجف، و انتقلت برودة أطرافها إليه فاقشعر بدنه. تمتمت:

- لا تعذب نفسك من أجلي. إن عاودني الدور اللعين لا تعطني الدواء. دعني أرحل.

اتسعت عيناه في دهشة. هم بأن يقول شيئا لكنها استطردت قائلة:

- أنت ستفعل ذلك من أجلي يا يوسف. لقد مللت و تعبت. أريد أن أرتاح.

و كالعادة غمغم بعبارة غير مفهومة. كان يريد أن يرد على عبارة سارة. كان يريد أن يقول لا و ألف لا. يرفض بشدة. يحتضنها بقوة. يسرد محاضرة مؤثرة عن ضرورة تحمل الألم لأنه جزء من وجودنا لا يمكن أن نعرف أنفسنا بدونه. إنه الضد الذي بدونه ينعدم معنى السعادة ويصير وجودنا فضاء خاويا لا يحتمل. لكنه تراجع. ليس هذا وقت التفلسف! إنه و بلا شك وقت الرومانسية. لا بد أن يترك مشاعره تنطلق بلا قيود و أن يقول لسارة كم يهواها و أن ما تطلبه منه هو ضرب من المستحيل. كيف تطلب منه أن يخلصها من حياتها غير مدركة أن في زوالها زواله؟ أنا لا أستطيع الحياة بدونك يا سارة! كان يريد أشياء كثيرة، لكنه في النهاية بقى صامتا كلوح من الحجر.

* * *

- البقية في حياتك يا يوسف. والدتك كانت امرأة عظيمة. يرحمها الله.

قالها عماد صديق عمره. شعر يوسف بالحرج الشديد لمرأى عماد في الصوان. لقد ماتت أم عماد قبل شهر واحد لكن يوسف نسى (ربما تناسى؟!) أن يحادثه بالتليفون ليعزيه. كان يشعر بالتفاهة و الضآلة أمام عماد، لكن كل مشاعره بالدونية تتحول في لحظة من اللحظات لغضب فكراهية فشعور بالذنب فتوبة فسلام نفسي دائم. كم أشعر بالضآلة أمامك يا سارة!..

* * *

بدا أنها نامت مرة أخرى. شعر برغبة عارمة فى النوم كعادته فى الملمات. كان يكره تضحياتها الكبيرة وعلو كعبها عليه. "لا تعذب نفسك من أجلى". حتى فى قمة ألمها تفكر فى عذابه هو. و لم؟ أهو إصرار منها على إشعاره بالذنب؟ اللعنة على الشعور بالذنب. هو أنانى بلا شك لكنها هى أيضا أنانية. تريد أن تتخلص من آلامها كى ترتاح، لكنها لا تبالى بعذابه هو و شعوره بالذنب إن هو منع عنها الدواء. شعور أبدى سيبقى معه أبد الدهر فى تلك الحالة. نعم، إنها أيضا أنانية و تفتقد التفوق الأخلاقي في ذلك الموقف. ارتاحت نفسه لهذا التحليل، فسرى في جسده إحساس مفاجئ بالنشوة و السعادة غير المبررتين.

غير أن السعادة كعادتها لم تدم طويلا فسرعان ما عاوده إحساس أشد عمقا بالذنب. كيف يجرؤ أن يؤنبها و هى على بعد خطوة من الرحيل؟ انتابه إحساس بالألم و اليأس و الضعف مصبوغا بكراهية ممقوتة لسارة و تمنى للحظة لو ترحل في هدوء دون أن يضطر لاتخاذ قرار قد ينغص عليه صفو حياته. في لحظة أخرى تمنى لو تشفى سارة للحظات و تستطيع وقوف موقف المستشار المحايد كعادتها حين تساعده على اتخاذ القرارات. أنا أحتاجك يا سارة!

و لكن هيهات. لم كل هذا التوتر؟.. لقد نامت سارة و حين تستيقظ لن تتذكر مطلبها الغريب. لقد قالت ذلك فى لحظة ألم بلا شك، و لذا فما عليه سوى تجاهل ما حدث كأن لم يكن، و إن عاودها الدور المؤلم فسوف يعطيها الدواء بغير تردد و إلا سيكون قاتلا.

ارتعد جسده رعدة خفيفة حين برقت الكلمة الأخيرة في ذهنه.

* * *

- كم أكون سعيدا بجوارك يا سارة..

قبلتني..

- إن ما يبقى من الحياة في ذاكرتي يا يوسف هى اللحظات التي نمضيها سويا..

أطرق برأسه للحظات.

- ألا تصدقني؟

- إني أتذكر أشياء أخرى. لحظات المعاناة أيضا تبقى محفورة بذواتنا حتى لو حاولنا الهروب منها.

رمقته سارة بنظرة متسائلة لا تخلو من التأنيب. لقد أفسد اللحظة الحلوة بتفلسفه الأحمق.

- أتشعر بالسعادة معي يا يوسف؟

- بالطبع.

قالها بلا تفكير فازدادت نظرة سارة تأنيبا.

ما السعادة على أية حال؟ ذلك الشعور المبهم بالنشوة عند إشباع حاجة آلمتنا طويلا. ما السعادة إلا زوال الألم و المعاناة اللذين يصاحبان الشعور العارم بالاحتياج. ما الحياة إلا معاناة!

- إن أي إحساس بالألم و أية ذكرى للمعاناة يزولان بمجرد رؤياك يا سارة.

قالها بتأثر بالغ. لم أكن أكذب يا سارة.

* * *

- يوسف.. معقول؟

- عماد.. أنا أعرف أني مقصر..

- لا تقل شيئا.. أعرف تبريراتك مقدما.. ثلاثة شهور كاملة و أنت تتجنب حتى الرد على مكالماتي.. لقد اعتدت أسلوبك الغبي..

هو محق بلا شك.. لم يكن يوسف يدري لماذا يتجنب عماد في أوقات كثيرة.. قد تكون أوقات سعادة أو معاناة.. إنه الشعور المبهم بالرغبة في الابتعاد عن حماقات البشر.. ليس لأن عماد أحمق و لكن لأننا بشر. و لكن هيهات. هذه المرة سيلقي يوسف مبررا لغيابه قويا أيما قوة، بحيث يلجم عماد عن الكلام والتأنيب و ربما يجعله يبدأ في الاعتذار. سرى الإحساس المفاجئ بالسعادة و النشاط في جسد يوسف، لكنه قرر أن يستدرج عماد إلى مزيد من الخطايا و مزيد من التأنيب قبل أن يلقي بقنبلته. كان يستعذب الإحساس بكونه الضحية و الشهيد و المسيح الذي يتحمل خطايا البشر.

- لا تتسرع في الحكم يا عماد!

- حسنا.. هات ما عندك..

ضايقه إفساد عماد لخطته.. كان يود لو يتهكم عماد عليه أو حتى يشتمه كي يشعر بمزيد من الاستسلام اللذيذ و بمزيد من تفوقه الأخلاقي قبل أن يصرح بمبرر غيابه القوي، لكن حمق صديقه و سطحيته أفسدا كل شيء. شعر فجأة بكراهية دفينة لعماد و غمره شك مؤلم في أن عماد حقا صديق عمره كما يحلو له أن يصوره أمام نفسه و الناس. أحس أنه يريد الآن أن يفرغ الشحنة المكتومة في جعبته لسنوات و أن يصارح عماد بأنه عندما يتجنب الأخير فإنما يكون ذلك عن عمد، و ليس بسبب النسيان أو ظروف الحياة (المبرر الذي يستخدمه دوما). كان يستعذب الإحساس بالبطولة و التفوق المادي على من حوله حتى لو لم يكن ميزان التفوق الأخلاقي ميالا لصالحه. هم بأن يقول كل ذلك لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة ليس لسبب واضح. ربما بسبب الجبن أو الخوف من فقدان صديق كعماد يلجأ إليه في الشدائد.

- عماد.. أنا كنت بعيدا في الفترة الماضية لأن سارة مريضة.

ها قد ألقى بقنبلته. المبرر "الحقيقي" لغيابه و ابتعاده هذه المرة. ترقرقت دموع بعينيه حين سمع عبارة "سارة مريضة" تتردد في حنجرته. أحس بالتعاطف مع ذاته، ذلك التعاطف الذي يتحقق حين نقف موقف الآخر و نسمع مأساتنا من الخارج، و الذي يموت بالتعود على المأساة و معايشتها من الداخل.

- مريضة؟!!

- نعم.. مرض خطير.. اكتشفناه قبل ثلاثة شهور.

كانت سارة مريضة منذ شهر واحد فقط، لكنه أراد أن يكون المبرر لغيابه كامل الدقة. أحس بالغباء لذكر المدة بهذا التحديد، فالدقة المبالغ فيها قد تولد الشك عند عماد. ما أغباك يا يوسف! دائما تبالغ في الكمال!

- يوسف.. أنا آسف..

قالها عماد ببراءة شديدة. سرت النشوة في جسد يوسف. ها هو يلعب دور المسيح. ما عليه الآن سوى أن يغفر! انتابه فجأة إحساس مقيت بالذنب. كيف يشك في أن عماد صديق عمره و كيف يجرؤ حتى في خياله أن يقول له ما كان يهم بقوله (من قبيل أنه يتجنبه عمدا)؟ كيف تبلغ به القسوة و الفجاجة هذا المبلغ؟ اللهم احمني و احم سارة من شيطان نفوسنا.. كم أعشق براءتك يا سارة!

* * *

- ما أجمل الصور..

- ماذا تقصد يا يوسف؟

- دليل مادي على أن الماضي الميت كان حيا في لحظة من اللحظات.

تطلع إلى الصورة الفوتوغرافية القديمة التي بيده مجددا. رمق سارة النائمة بنظرة ألم.

* * *

- هنا.. تعال لنكون في الصورة سويا..

- هذا يستلزم أن يقوم أحد بتصويرنا.

كان يستثقل أن يوقف أحدا من المارة ليطلب منه التصوير. لكن لا مفر.

- من فضلك ممكن تصورنا؟

ومضى الرجل بلا رد. ازداد حنق يوسف. سارة كالعادة تكفلت بالمطلب الصعب، وأوقفت هي أحد المارة. كم يشعر بالتفاهة في تلك الصورة، لكن الماضي له هيبته على أية حال، والصورة لا تحفظ سوى الابتسامة التي نرسمها وننقشها نقشا على شفاهنا المذنبة. الصورة لا تسجل سوى السعادة. حياتي فارغة لا تطاق بدونك يا سارة!

* * *

- آه..

كانت الآهة قوية هذه المرة بشكل كاد يخلع قلبه من ضلوعه.

- سارة.. ما بك؟

عجزت عن الرد. إنها النوبة اللعينة بلا شك. شعر بالخوف. بدأت أطرافها تهتز، والعرق يتصبب على جبينها. كانت تتلوى من الألم. رتب أفكارك يا يوسف!.. الدواء!.. ولكن ماذا عن طلبها؟.. لا تبال.. تصنع أنك قد نسيت الطلب..

- حالا سأحضر الدواء..

- يوسف..

قالتها بصوت يحتضر. كان كابوسا. أحس بالرغبة في الاختفاء من الوجود. شعور يحس به دوما في مثل تلك المواقف..

تسمر في مكانه. سارة ترجوه ألا يحضر الدواء. عليه الاختيار!

حسنا. فليحضر الدواء ثم يتخذ القرار. على الأقل سيكسب بعض الوقت. اندفع إلى الصالة بكل ما أوتي من قوة، وخطف علبة الدواء من فوق الترابيزة ثم عاد. سارة ما زالت تتألم. وجهها الشاحب قد ازداد شحوبا حتى صارت كالموتى، وبريق عينيها الذي طالما جذبه إليها قد بدأ في الخفوت. ما الحياة إلا ألم يا سارة!

- أرجوك يا يوسف.. لا أريد شيئا..

قالتها بصعوبة بالغة.

جلس إلى جوارها، وضم يدها إلى صدره. أجابته بابتسامة بدا أنها بذلت مجهودا جبارا كي تخرجها إلى الوجود. غمره الإحساس المقيت بالتردد وعدم القدرة على اتخاذ القرار. هل يرغمها على أخذ الدواء وهو الذي لم يرغم أحدا في حياته على فعل شيء لا يريده؟.. ما الحرية إذن إذا تدخلنا بصفاقة في قرارات الآخرين؟.. ما المسئولية وما القرار؟.. لكنها سارة، وما تطلبه قد يعني موتها وزوالها إلى الأبد.. هل سيتحمل المسئولية؟.. هل سيقوى على تحمل الإحساس الشنيع بالذنب؟..

وسارة.. من هي سارة؟.. أغلى ما في حياته.. تموت؟!.. ارتسمت في مخيلته تلك الصورة المبهمة التي عادة ما تتكون عندما يفكر في الموت. صورة خاوية سوداء لا يفهمها إلا كانتفاء لكل معنى. هز رأسه كمن يريد أن ينفض عن ذهنه تلك الصورة وحاول أن يفكر في ماهية الواجب الأخلاقي أو ما يتعين عليه القيام به في ذلك الموقف. حاول مرات عديدة بلا جدوى. شعر فجأة برغبة عارمة في البكاء وخالجه يقين بمدى اليأس والمأساة اللذين يخيمان على حياته وكأنه قد اكتشف بغتة أنه رجل حزين، وأن موقفه الحالي يدعو إلى الشفقة. بدأت دموع متناثرة تهيم على خديه.

بدا كأنه ارتاح قليلا بسبب دموعه. ما عليك يا يوسف إلا أن تفعل الواجب الأخلاقي. لابد أن تعطيها الدواء وبأي ثمن. تذكر حينئذ ما قاله الطبيب بأن هذا الدواء ضروري للحفاظ على حياتها في كل نوبة تحدث لها، لكنه لن يشفيها من مرضها.

وبدون مقدمات، أخرج حبة الدواء من العلبة. لقد اتخذ القرار. أمسك بسارة لكي يساعدها على الجلوس ولكن، ولفرط دهشته، دفعته سارة بعيدا فطارت حبة الدواء من يده.

- قلت لا أريد شيئا.

- حسنا.. حسنا يا سارة..

قالها بتلقائية وبلا تفكير بل بانفعال طبيعي من وحي اللحظة. أنا سأفعل أي شيء من أجلك يا سارة.

لكنه عندما عاد إلى تفكيره أحس بأنه بعبارته تلك قد وقع في الفخ، فخ التسرع والانزلاق إلى اتخاذ قرارات مؤثرة بغير إرادة منه. فهذه العبارة تعني ربما أنه سيلبي طلب سارة مع ما يستتبعه ذلك من آثار بعيدة المدى. لكن ثم ماذا؟.. أيعطيها الدواء بالقوة؟.. لقد فعل الواجب لكنها رفضت الدواء بقوة. ثم ماذا يفعل إن هو أصر على اعطائها الدواء وأصرت هي على عنادها؟.. هل يشتبكان بالأيدي مثلا؟.. ابتسم رغما عنه في سخرية فقد نجح طيلة حياته في الابتعاد عن المشاجرات، فكيف إذن يكون الموقف إن هو دخل الآن في مشاجرة؟.. الآن!.. والمأساة ما زالت تدور فصولها.. كم ستكون المشاجرة موقفا سرياليا مضحكا لأي مراقب محايد..

إذن إنه الآن قرارها هي لا هو. غمره الإحساس اللذيذ براحة الضمير، ولكن مع ما صاحب هذا الإحساس من سعادة خفية، فقد ظللته كآبة شاملة مبعثها أن سارة على وشك الرحيل. سارة رفيقة العمر!

* * *

"متى ستعرف كم أهواك يا أملاً.. أبيع من أجله الدنيا وما فيها"..

- سارة.. الدكتور قال لي أني غير قادر على الإنجاب..

قالها وهو يغالب دموعه، ونجاة تشدو بأعذب أغانيها.

- يوسف.. أنت عندي بالدنيا وما فيها..

أحس بأنه يحب سارة حبا يفوق الوصف. شعر بأنه يرغب في احتضانها إلى الأبد. متى ستعرفين كم أهواك يا سارة.

* * *

- يوسف.. أنا خائفة..

قالتها بوهن بالغ. لم يدر ماذا يقول لكنه بكى كالأطفال. رمقته بنظرة عتاب هي أقسى ما تعرض له في حياته ثم.. فارقت الحياة..

توقف عن البكاء. شعر بفراغ سحيق في أعماق ذاته وكأنه صار جسدا بلا محتوى. لا تتركيني يا سارة.

- دكتور.. سارة ماتت..

قالها بتأثر مصطنع. في الحقيقة لم يكن يحس شيئا على الإطلاق. كان كلوح من الثلج.

- نعم.. داهمتها النوبة.. لا.. ماتت قبل أن أعطيها الدواء..

هذا الدكتور الأحمق. فضول غبي..

أغلق سماعة التليفون. عاد إلى حجرة النوم حيث ترقد سارة. رمقها بنظرة خالية من كل مغزى. لقد انتهى كل معنى من حياته.

لكنه تذكر فجأة نظرة العتاب الأخيرة. لماذا يا سارة؟.. لقد حاول وأنت رفضت. لكنه لا يستطيع تحمل العتاب. إن تأنيب الضمير عذاب ما بعده عذاب فما بالك بالتأنيب وهو يأتي لا من الذات بل من الآخرين؟ بل ومن سارة! حاميته ومنقذته من الألم. أخذت صورة نظرة العتاب المرتسمة في ذهنه تعذبه وهو يحاول إبعادها بلا جدوى. فلما فقد الأمل في إبعادها استحضرها بقوة إمعانا في الإيلام. في النهاية هز كتفيه بلا مبالاة وقد شعر براحة ضمير. فالواجب الأخلاقي قد فعله، والحرية الفردية قد احترمها، وسارة قد ذهبت بنظرتها إلى الأبد. إنه الآن في أمان.

ولكن داهمه الإحساس بالخواء والفراغ وانعدام المعنى. مادت به الأرض. حاول أن يستند إلى المقعد ثم أظلمت الدنيا.

* * *

- أستاذ يوسف. حمدا لله على السلامة.

فتح عينيه في دهشة. كان مستلقيا على الكنبة في حجرة النوم. حاول جاهدا أن يتذكر ما حدث، وما إن نجح في ذلك حتى سمع الدكتور يقول:

- أنت مرهف الحس يا أستاذ يوسف. أقلقتنا عليك. لقد جئت لتوي من العيادة بعد مكالمتك. ضربت الجرس عدة مرات بلا إجابة. اضطررت لإحضار الشرطة لكسر الباب. المهم.. سارة لم تمت يا أستاذ يوسف.. لقد فقدت الوعي من شدة الألم. هذا كل ما هنالك. وأنت أيضا فقدت الوعي. لكن يبدو أنك تأخرت كثيرا في إعطائها الدواء. المهم. ربنا سلم.

- سارة لم تمت؟!!..

- لا يا أستاذ يوسف. هي أمامك بخير. انظر إليها.

تحاشى النظر إليها إلى أن ودعهما الدكتور وانصرف. كان خائفا. كل ما تبقى في ذاكرته من وجه سارة هي نظرة العتاب الأخيرة. سارة لم تمت!!.. ما أسعدني بجوارك يا سارة!..

نظر إليها في خوف.

- حمدا لله على سلامتك يا سارة..

رمقته بنظرة العتاب القاتلة ذاتها مشوبة بشيء من الإشمئزاز. انتظر الرد طويلا ولما لم يجد استجابة نهض من الكنبة وسار إلى الفراش. جلس بجوارها وأمسك بيدها في حنان لكنها، ولفرط دهشته، أبعدت يده في عنف.

- يوسف.. طلقني..

رنت العبارة في أذنه رنة غريبة. نظر إليها نظرة خالية من كل معنى. لقد انكسر كل شيء يا سارة.

تمتم بعبارة غير مسموعة.

* * *

محمد عبد الرحمن صالح

لوس أنجلوس 15/6/2008






1 comment: