Saturday, August 14, 2010

العبد

العبد

"قصة قصيرة"


كان ممسكاً بخرطوم مياه في يده، منهمكاً في ري حديقة غناء مترامية الأطراف.. حديقة حفظ كل ركن فيها عن ظهر قلب.. انحفرت في ذاكرته أشجارها الباسقة.. وأشجارها الضئيلة الذابلة.. علقت في قلبه أزهارها زهرة زهرة.. حشائشها.. حشراتها.. وذلك من كثرة ما رآها في حياته القصيرة.. الخالية من كل معنى.. المجردة من كل مغزى..

كانت حديقة شاسعة.. أو هكذا تخيلها منذ طفولته, ونما معه هذا التخيل يوما بيوم دون أن يحاول التأكد من صحته.. ربما لأن هذا لم يكن شيئا مهما يستحق بذل الجهد..

كانت حديقة حزينة.. كئيبة.. طبع عليها حزنه وكآبته، وانطبع عليه حزنها وكآبتها.. فصار جزءاً منها وصارت جزءاً منه..

كانت تحيط بقصر منيف مهيب المنظر، يرحل بذاكرتك بعيداً إلى قصور أمراء أوربا في العصور الوسطي.. كان كالقلعة الحصينة المخيفة.. كم خاف من منظره، وكم تمني لو لم يكن القدر هو ذلك القدر ولم يكن "هو" ذلك الـ "هو".. ولم يكن المكان ولا الزمان ذلك المكان أو ذلك الزمان..


اقترب من سور الحديقة، وبدا أنه يقصد هدفاً معيناً اختاره بعناية.. كان الهدف عبارة عن ثقب ضئيل في السور، اقترب منه في حذر شديد وهو يتلفت حوله بين اللحظة والأخرى، قبل أن يضع إحدى عينيه على الثقب.. فانظر ماذا ترى؟!!..

رأى الطريق.. على جانبيه الأشجار الوارفة الظلال.. يمر به بين الحين والآخر أشخاص من بني الإنسان.. ومن بني الحيوان.. رأى الحياة.. رآها تدب بانتظام خارج حدود الحديقة الميتة.. إنه يتنفس أنسام الحرية التي حرم منها منذ نعومة أظفاره، منذ رأى الحياة..

لم يكن ثقباً صنعته الطبيعة الحمقاء.. أو خلفه عدم إتقان البناء.. كان ثقباً من صنعه هو.. صنعه ليرى الطريق.. ليرى الحياة..

  • - "تباً لك يا x.... ماذا تصنع أيها الأحمق؟"..

دوت هذه العبارة في أذنه كالرصاصة.. وصاحبتها يد ثقيلة حطت على كتفه المسكين.. فألجمت المفاجأة لسانه الأخرس.. وإن أبعد رأسه بسرعة عن الثقب، وتحول بعنقه إلى مصدر الصوت الذي كان يعرفه ويحفظه عن ظهر قلب.. إنه صوت "السيد"!!.. يا للهول!!..

نظر في خوف شديد إلى عيني "السيد" الحادتين، وتلعثم كثيراً في النطق قبل أن يقول بصعوبة:

  • - لا شيء سيدي.. لا شيء على الإطلاق..

رمقه "السيد" بنظرة حادة كالسهم المارق، وقال في حدة:

  • - أتكذب يا x ؟.. ألا تعرف أني أعلم كل ما يدور بداخلك؟.. هل جننت أم أصابك مس من الشيطان اللعين؟..

اضطرب x ولم يستطع أن يخفي هذا الاضطراب أو لعله لم يحاول إخفاءه يأساً واقتناعاً بالفشل ونقص العبد أمام السيد.. لكنه حاول أن يستجمع خلاصة شجاعته وقال وهو يشيح بنظراته بعيداً عن عيني "السيد":

  • - لم أجن ولم يصبني مس شيطاني.. لقد كنت أنظر من هذا الثقب.. هذا كل ما هنالك.. هل أجرمت سيدي؟..

لطمه السيد لطمة قوية على خده الأيسر، اهتز لها جسده كله، وسالت بعض الدموع من عينيه بشكل لاإرادي.. قبل أن يحتضنه السيد بقوة اقشعر لها بدنه.. وتمتم السيد في تأثر:

  • - لا تكلمني بتلك الطريقة مرة أخري يا x !!.. أبدا!!.. هل فهمت؟!..

بدا أن x قد ارتاح في حضن سيده فلم يبدي أية مقاومة بل أرخى رأسه على كتف سيده وأغمض عينيه بقوة.. مرت صورة "الطريق" سريعة أمام عينيه، ولم يحاول أن يهدئ مسيرها كي يمعن النظر إليها بل تركها تمضي كما مضت "الحياة".. ربما بلا عودة..

قطع شروده صوت "السيد" وهو يقول بشدة ملؤها الحنان:

  • - لماذا فعلت هذا يا x ؟.. ألا تكفيك الحديقة؟.. ألا يكفيك حلم دخول القصر؟.. أليس هذا هو الحلم النهائي الذي غرسته أنا بداخلك؟.. ألا أكفيك؟.. هل تشعر بالحاجة رغم وجودي بجانبك؟..

تطايرت قطرات من الدموع من عيني x من فرط التأثر والانفعال، وقال بصعوبة بالغة:

  • - لم أقصد ذلك سيدي.. صدقني لم أقصده..

رمقه "السيد" بنظرة ملؤها العتاب وهو يقول:

  • - ماذا قصدت إذن أيها العبد؟

فاجأه السؤال رغم منطقه، فشرد قليلا قبل أن يقول:

  • - حباً في المعرفة سيدي.. ليس أكثر..

حدجه السيد بنظرة غاضبة وقال بحدة:

  • - أية معرفة تلك يا أبله؟.. تريد أن ترى الطريق والطريق بين يديك؟.. أنا الطريق يا x .. أنا الطريق....

بدا أن خضماً من الصراعات النفسية العميقة يعتمل في نفس x ، قبل أن يقول في جرأة كان هو نفسه أول المدهوشين لها:

  • - سيدي.. لقد مللت هذا السجن اللعين.. منذ ميلادي لم أر غير هذه الحديقة.. حتى القصر تمنعني من دخوله.. كان لابد أن أرى الطريق بالخارج.. كان لابد أن..

قاطعه السيد في عصبية بالغة وهو يقول:

  • - تباً لك.. أتسمي حياتك الهانئة سجناً؟... يالك من جاحد ناكر الجميل.. ألم أكن أنا من قام برعايتك منذ نعومة أظفارك؟.. لولاي أنا لما كنت أنت.. لا قيمة لك بدوني.. لو خرجت من هنا ستصير حياً ميتاً..

ثم اقترب منه في حنان وقال:

  • - تريد أن تتركني يا x ؟.. أنا سيدك.. كيف تقدر على الحياة بدوني؟.. أنسيت كم ضحيت أنا من أجلك؟.. أنسيت يوم أخطأت؟.. يوم أن رميت حجراً خارج السور فسقط على رأس طفل مسكين؟.. ألم أتحمل العذاب من أجلك؟.. لقد فديتك أيها الأحمق.. تحملت الجلد من أجلك لأني أحبك.. يا للفاجعة!!..

أجهش x في البكاء فجأة وقال وهو في غمرة حزنه:

  • - آسف سيدي.. آسف.. أنا لا أقدر على الحياة بدونك.. إنها مجرد شطحات عبد أحمق.. إنه ليس سجناً سيدي.. إنه الحياة.. إنه الحياة.. لقد منحتني أنت الحياة..



كان ممسكاً بخرطوم مياه في يده، منهمكا في ري حديقة غناء مترامية الأطراف، عندما فوجئ بكرة صغيرة تسقط داخل الحديقة.. لقد أتت من الخارج.. من الطريق.. بل من الأرض الميتة..

سمع صوتاً يقول:

  • - سيدي.. سيدي..

فزع للحظة.. ثم استغرب البقية الباقية من عمره.."سيدي".. هل هذا الصوت يناديه هو؟.. هل يخاطبه بـ "سيدي"؟.. هو.. أنا.. ذلك الكائن الذي لا يحمل اسماً من شدة خطاياه.. ذلك الكائن الذي لم يرد "السيد" أن يمنحه اسماً.. فبقي يخاطبني باسم " x "...

اقترب من سور الحديقة حتى وصل إلى الثقب الذي وعد سيده أنه لن ينظر منه للخارج مرة أخرى.. "السيد" وثق به ولم يرد أن يسد الثقب فهل هو أهل للثقة؟..

لم يفكر كثيراً بل ألصق وجهه على السور ونظر من الثقب فرأى طفلاً صغيراً يبكي بشدة.. إنه الحياة.. رفع صوته قائلاً:

  • - ماذا هنالك؟.. لماذا تبكي؟..

اقترب الطفل من الثقب، فابتعد هو عنه كي يتسنى للطفل رؤيته.. لم يرد أن يرى الطفل عينه فيسبب له شيئاً من الفزع.. إنه يكفر عن خطيئته القديمة.. يوم قتل الطفل المسكين.. سمع الطفل يقول:

  • - سيدي.. لقد وقعت مني الكرة بالداخل.. هل من الممكن أن تقذفها لي؟.. ماما سوف تعنفني كثيراً لو أضعت الكرة.. أرجوك سيدي..

وبلا تفكير.. أسرع العبد نحو الكرة وقذفها للخارج، ثم نظر مرة أخري من الثقب فرأى الطفل يقفز من الفرحة ويقول:

  • - شكراً سيدي.. لقد منحتني الحياة..



كنت ممسكاً بخرطوم مياه في يدي، منهمكاً في ري حديقة غناء مترامية الأطراف، بيدي سكين.. رأيت "السيد" يقترب.. لم أفزع.. صحت قائلاً:

  • - سيدي.. أنا راحل من هنا..

ألجمت المفاجأة لسان "السيد" فانتهزت الفرصة وأكملت حديثي قائلاً:

  • - أنا ذاهب للحياة.. للطريق.. لا أريد قصراً تمنيني بدخوله منذ مولدي.. أريد الطريق.. أريد الحياة.. أنا أستحق الحياة.. لم أخطئ.. لقد قتلت الطفل بغير عمد..

أخذ يردد عبارة "أريد الحياة" بطريقة هستيرية وهو يغمد سكينه بقلب "السيد", قبل أن يصرخ ويصيح:

  • - لقد مات "السيد".. لقد مات "السيد".. لقد منحت نفسي الحياة..



كنت ممسكاً بخرطوم مياه في يدي, منهمكاً في ري حديقة غناء مترامية الأطراف.. أمنحها الحياة.. لي قيمة بدونه.. بدون "السيد"..

أسقي من يشعر بالظمأ.. أحنو على من يتألم من شدة القيظ.. أمنحه الحياة.. أمنحه الحياة.. أنا الطريق.. أنا الحياة..


No comments:

Post a Comment